فأقول ومن الله العون والتوفيق، إن العاقل من عرف مقادير الأدلة وأحسن نصب الميزان لها، فلم يقدم إلا ما حقه التقديم، ولم يؤخر إلا ما حقه التأخير، ولم يرفع ظنا فوق قطع، ولا ساوى بين مختلفين، ولا خالف بين متساويين، ولا قاس بغير علة، ولا أبطل قياسا جليا، ولا رجَّح في محل الجمع، ولا جمع في محل الترجيح، ولم يشتبه عليه دليل لا يختلف العقلاء في ضعفه فقواه، ولا دليل لا يخالف العقلاء في قوته فوهَّاه .. فإنما الحكمة وضع الشيء في موضعه عند حده ومنتهاه، والله الهادي إلى الرشاد لا رب سواه.
إن هذا القدر من التمييز بين مراتب الأدلة لا يختلف فيه العقلاء من أهل صناعات العلوم أيا ما كان موضوعها، سواء الشرعية منها والدنيوية، وهو محل إجماع لا يخرقه من أهل الأرض إلا جاهل أو غوي. فإذا ما تعرض الباحث – في أي حقل من حقول المعرفة الإنسانية - لمسألة يتنازعها من الأدلة ما يتفاوت في قوة الدلالة، فإنه يُعمل من طرائق النظر العقلي والفلسفي ما اتفق عليه أهل صناعات العلوم من تقديم القوي على الضعيف، والمجمع عليه على المختلف فيه، وضرورة العقل على ما دونها، ولا يخالف في ذلك عاقل قد عرف أصول العلوم والعقليات أو تمرس في شيء من ذلك. ولو أنك سألت عالما من أي علم من العلوم البشرية أيا كان، عن قوله في هذا الأصل الأصيل والركن الركين من أركان النظر العقلي، لما خالفك في صحته ولما ظهر لديه أي اعتراض عليه. ولكنّ العبرة بعدُ بالتطبيق والتحقيق، فما أكثر الأدعياء وما أعز البينات!
ولأن حجة الحق إذا ما ظهرت، دمغت وهدمت عروش الباطل وأهله، فقد مضت سنة الله في كونه أن كان أئمة البدعة والانحراف والزيغ في سائر أمم البشر وعبر جميع أعصار المعرفة البشرية قاطبة، يتعلقون ببعض الأدلة ويتركون بعضها، لموافقتها أهواءهم وأغراضهم، يعتقدون أولا ثم يرومون الاستدلال لما اعتقدوه! فلا يسلكون سبيل الحكماء في صنائع العلوم من جمع سائر ما يرقى للدلالة في المسألة المنظورة، للنظر في كيفية استخراج الدلالة من مجموع الأدلة على نحو ما يشهدون على أنفسهم بوجوبه في حق كل ناظر، وإنما يقتصرون على دليل ما أو على فئة من الأدلة بعينها دون غيرها، وقد عرفوا – من بعد جهل أو من بعد إصرار على اتباع الهوى – أن ما معهم من أدلة لا يكفيهم ولا يقيم لهم حجة فيما يدعون. وإنما أصروا على غمط الحق والتنكر لما عند مخالفهم من الأدلة، والعمل على توهينها والتنقص منها بلا بينة ولا برهان، لأنهم عرفوا – بل تيقنوا – أن في تلك الأدلة ما يهدم لهم دعواهم المنحرفة، ويثبت بطلان ما عقدوا لأنفسهم من معاقد الاعتقاد والدين ويذهب ما جمعوا لأنفسهم من ثناء الخلق والتصدر بين العامة والجاهلين.
وقد عرفنا من صنوف ذلك وألوانه في أهل الملل والنحل في هذه الأرض ما تطفح به كتب التاريخ وكتب العقائد والفلسفات، وقد رأينا منه في أمتنا في أهل القبلة كذلك في طوائف أهل البدع، كما جرت سنة الله في سائر الأمم، على درجات ومراتب شتى يعرفها أهل العلم والتحقيق من لحون أصحابها، يميزونها في أقوال الناس كما يميز الصائغ المحنك بخس الجواهر من نفيسها.
فمن ذلك أنك ترى سائر طوائف المبتدعة من أهل القبلة يتمسك كل فريق منهم بشطر من النصوص في باب بدعتهم ويهمل أو يتأول ما سواها على غير وجهه الصحيح، فمنهم من بلغت مخالفته وبدعته أن رد شطرا من مصادر تلقي التشريع التي لا حجة لمن ردها البتة، لأنه لا تستقيم له بدعته إلا بذلك، ولو أنهم تجردوا من هوى النفس لجمعوا سائر أدلة الباب إلى بعضها البعض ولبرأوا من تلك البدع!
ومن ذلك أنك ترى النصارى يفترقون ويختلفون فيما بينهم على ملل وطوائف شتى، يتنازعون في تفاصيل الأقنوم وحقيقته، وفي علاقة الروح القدس بالآب والابن، وفيما إذا كانت الروح قد انبثقت من الآب وحده أم من الآب والإبن جميعا، وفي طبيعة العلاقة بين اللاهوت والناسوت، وغير ذلك مما لا أثارة عليه من دليل أصلا (إلا ما اصطنعوا لأنفسهم من شبهات الأدلة الكلامية)، وهم يتغافلون في ذلك كله – عمدا لا جهلا – ما يضج به العقل السوي من فساد معنى الثالوث نفسه بالأساس!! فما الذي أعمى أبصارهم عن فساد معناه وهو أساس ملتهم، وما الذي حملهم على التعامي عن حجة البطلان العقلي الدامغة لأصول ملتهم والاشتغال بالظنيات في فروعها؟؟
¥