على أنه كانت محاولات من الإمام عز الدين بن عبد السلام المصري الشافعي في كتابه قواعد الأحكام في مصالح الأنام، وشهاب الدين أحمد بن إدريس القرافي المصري المالكي، في كتابه الفروق. ويبقى الرجل الفذ الذي جمع زمام هذا الفن هو الإمام الشاطبي، وإن كان لم يسلم –على حسب رأي بعض العلماء- من تطويلات وخلط، وإغفال مهمات من المقاصد.
واستغل الإمام محمد الطاهر بن عاشور اختلاف الأصوليين في أدلة الأحكام القطعية، ليقترح علم مقاصد الشريعة قائلا: "فنحن إذا أردنا أن ندون أصولا قطعية للتفقه في الدين حق علينا أن نعمد إلى مسائل أصول الفقه المتعارفة، وأن نعيد ذوبها في بوتقة التدوين ونعيرها بمعيار النظر والنقد، فننفي عنها الأجزاء الغريبة التي غلثت بها، ونضع فيها أشرف معادن الفقه والنظر ثم نعيد صوغ ذلك العلم ونسميه: علم مقاصد الشريعة، ونترك علم أصول الفقه على حاله تستمد منه طرق تركيب الأدلة الفقهية".
التآليف في علم المقاصد:
ثم جاءت التآليفات تترى في هذا الباب، خاصة في العقدين الأخيرين، فمنها:
- 'مقاصد الشريعة الإسلامية' للشيخ محمد الطاهر بن عاشور.
- 'مقاصد الشريعة الإسلامية ومكارمها' للأستاذ علال الفاسي.
- 'الشاطبي ومقاصد الشريعة' للدكتور حمادي العبيدي.
- 'نظرية المقاصد عند الإمام الشاطبي' للدكتور أحمد الريسوني.
- 'المقاصد العامة للشريعة الإسلامية' للدكتور يوسف العالم.
- 'نظرية المقاصد عند الإمام محمد الطاهر بن عاشور' للأستاذ إسماعيل الحسني.
- 'القيم الضرورية ومقاصد التشريع الإسلامي' للدكتور فهمي محمد علوان.
- 'فلسفة مقاصد التشريع في الفقه الإسلامي' للدكتور خليفة بابكر الحسن.
- 'الاجتهاد المقاصدي: حجيته .. ضوابطه .. مجالاته' للدكتور نور الدين بن مختار الخادمي. وله أيضا:
- 'المقاصد في المذهب المالكي خلال القرنين: الخامس والسادس الهجريين'.
هذه بعض المؤلفات المستقلة في الموضوع، وقد اشتملت كثير من كتب أصول الفقه عند المعاصرين على نبذة من القواعد المقاصدية.
× أولا: المقاصد العامة:
تقدم أن الإمام الشاطبي تناول مقاصد الشريعة وفرعها تفريعات عديدة، لكنه يرى أن تكاليف الشريعة ترجع إلى حفظ مقاصدها في الخلق، وهذه المقاصد لا تعدو ثلاثة أقسام:
القسم الأول:
qالمقاصد الضرورية: وهي ما لابد منها لقيام نظام العالم وصلاحه بحيث لا يبقى النوع الإنساني مستقيم الحال بدونه، فتعم الفوضى والاضطراب، ويلحقهم الشقاء في الدنيا والعذاب في الآخرة.
وهذه الضروريات خمسة: الدين، والنفس، والعقل، والنسل، والمال، وهذه المصالح اعتبارها محل اتفاق عن جميع علماء الشريعة الإسلامية بل راعتها الشرائع كلها، وإن اختلفت في طرق رعايتها.
والحفظ لها يكون بأمرين:
أحدهما: ما يقيم أركانها ويثبت قواعدها: وذلك عبارة عن مراعاتها من جانب الوجود.
ثانيهما: ما يدرأ عنها الاختلال الواقع أو المتوقع فيها، وذلك عبارة عن مراعاتها من جانب العدم، ويدخل فيه كل باب الجنايات.
أولا حفظ الدين عليه مدار الحياة السليمة المستقرة للأفراد والشعوب والأمم، وبدون ستحير العقائد وتضيع وتعم الفوضى، لذلك حفظ بإيجاده بأن شرع الإيمان بأركانه، وباقي العقائد الأخرى كالبعث والحساب، وأصول العبادات كالصلاة والصيام، وجعل من يقتل في سبيل إعلاء كلمته في أعلى الدرجات. كما شرع قتل المرتدين والزنادقة، وشرع عقوبة البدع والضلال، وشرع الجهاد.
ثانيا حفظ النفس: أي الإبقاء على الحياة التي وهبها الله لعباده حتى يعمروا هذا الكون بصفتهم خلفاء مكرمين ومفضلين عنده. فشرع الله لذلك تحريم القتل، وأوجب القصاص جزاء وفاقا، على من اعتدى على النفس التي حرم الله قتلها إلا بالحق.
ثالثا حفظ العقل: الذي عليه مدار التكليف وبه امتاز الإنسان عن سار الحيوان، وبه تسير الأمور على منهج قويم فشرع الله لحفظه وجوب التعليم على كل مسلم ومسلمة، وحرم المسكرات والمخدرات، وأقام على ذلك حدودا وعقوبات.
رابعا حفظ النسل: لو ترك الناس وشأنهم كالبهائم لما انتسب إنسان إلى آخر، ويترتب على هذا التزاحم على الأبضاع، واختلاط الأنساب والتقاتل، وفي ذلك مجلبة الفساد، لذلك شرع الله النكاح ورغب فيه، وحرم الزنى وغيره من تصريف الشهوة في غير وجهها كاللواط، وأوجب على ذلك أشد العقوبات كالقتل والجلد والنفي وغيرها.
¥