والحق مع الأخيرين، فأفعاله سبحانه معللة كلها، علمنا ذلك أو جهلناه، قال الإمام الشاطبي: "والمعتمد إنما هو أنا استقرينا من الشريعة أنها وضعت لمصالح العباد استقراء لا ينازع فيه الرازي ولا غيره، فإن الله تعالى يقول في بعثة الرسل وهو الأصل:] رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل [ .. وأما التعاليل لتفاصيل الأحكام في الكتاب والسنة فأكثر من أن تحصى كقوله تعالى في الوضوء:] ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم [ .. فنحن نقطع بأن الأمر مستمر في جميع تفاصيل الشريعة".
ويمكن إرجاع أدلة إثبات المقاصد إلى أصول أربعة: الكتاب والسنة والإجماع، والعقل:
فمن الكتاب قوله تعالى] ولكم في القصاص حياة [وقوله:] إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر [وقوله:] والله لا يحب الفساد [.
من السنة قوله e: « لا تنكح المرأة على عمتها، ولا على خالتها، إنكم إن فعلتم ذلكم قطعتم أرحامكم». متفق عليه.
وأجمع العلماء الذين يعتد بإجماعهم على تعليل الأحكام بالمصالح ودرء المفاسد.
ومن العقل: أن الله تعالى حكيم، والحكيم لا يصدر عنه إلا ما فيه فائدة، وإلا كان ما يصدر عنه عبثا، ولا يجوز أن تعود الفائدة على الله تعالى لاستغنائه، فتعين عودها على العبد. [8] ( http://majles.alukah.net/newthread.php?do=newthread&f=15#_ftn8)
علاقة المقاصد بالأصول وتاريخ استقلاله:
إن علم استنباط الأحكام لا يقوم إلا على ركنين: علم لسان العرب، وعلم أسرار الشريعة ومقاصدها.
فالركن الأول كان وصفا غريزيا في الصحابة والتابعين من العرب الخلص، كما أنهم كسبوا الاتصاف بالركن الثاني من طول صحبتهم لرسول الله e ومعرفتهم الأسباب التي ترتب عليها التشريع ..
وأما من جاء بعدهم ممن لم يحرز هذين الوصفين فلابد له من قواعد تضبط له طريق استعمال العرب في لسانها، وأخرى تضبط له مقاصد الشارع في تشريعه الأحكام، وقد انتصب لتدوين هذه القواعد جملة من الأئمة بين مقل ومكثر وسموها 'أصول الفقه'.
ثم أدرجوا في هذا الفن من الركن الثاني ما تمس إليه الحاجة في الاستنباط .. لكنهم أغفلوا الركن الثاني إغفالا، فلم يتكلموا عليه، اللهم إلا إشارة وردت في باب القياس عند تقسيم العلة بحسب مقاصد الشرع .. "وأول من قسمها فيما نعلم –يقول محمد مصطفى شلبي [9] ( http://majles.alukah.net/newthread.php?do=newthread&f=15#_ftn9)- إمام الحرمين الجويني في البرهان حيث قال بعد العلل ومسالكها: وهذا الذي ذكره هؤلاء أصول الشريعة، ونحن نقسمها خمسة أقسام: أحدها ما يعقل معناه وهو أصل ويؤول المعنى المعقول منه إلى أمر ضروري .. الضرب الثاني: ما يتعلق بالحاجة العامة، ولا ينتهي إلى حد الضرورة .. والضرب الثالث: ما لا يتعلق بضرورة خاصة، ولا حاجة عامة، ولكنه يلوح في غرض في جلب مكرمة أو في نفي نقيض لها .. والضرب الرابع: ما لا يستند إلى حاجة وضرورة، وتحصيل المقصود فيها مندوب إليه تصريحا .. والضرب الخامس: ما لا يلوح فيه للمستنبط معنى أصلا [10] ( http://majles.alukah.net/newthread.php?do=newthread&f=15#_ftn10)..".
وقد وقف الفن منذ القرن الخامس عند حدود ما تكون منه في مباحث الشطر الأول، وما تجدد من الكتب بعد ذلك، دائر بين تلخيص وشرح، ووضع له في قوالب مختلفة.
وهكذا بقي علم الأصول فاقدا قسما عظيما هو شطره، حتى هيأ الله سبحانه وتعالى أبا إسحاق الشاطبي في القرن الثامن الهجري لتدارك هذا النقص، وإنشاء هذه العمارة الكبرى .. فحلل هذه المقاصد إلى أربعة أنواع –ستأتي- ثم أخذ يفصل كل نوع منها وأضاف إليها وبسط هذا الجانب من العلم في اثنتين وستين مسألة وتسعة وأربعين فصلا من كتابه الموافقات تجلى بها كيف كانت الشريعة مبنية على مراعاة المصالح، وأنها نظام عام لجميع البشر دائم أبدي لو فرض بقاء الدنيا إلى غير نهاية، لأنها مراعى فيها مجرى العوائد المستمرة .. وأن هذه الشريعة خاصيتها السماح، وشأنها الرفق، تحمل الجماء الغفير؛ ضعيفا وقويا، وتهدي الكافة فهيما وغبيا. مقدمة الشيخ عبد الله دراز للموافقات بواسطة مشهور حسن سلمان.
¥