وقد نبه إلى أثر النوازع النفسية على اختيار المرء وترجيحه ورأيه العلامة المعلمي اليماني

فقال: (حتى إنك لترى المرأة في زماننا إذا وقفت على بعض المسائل التي كان فيها خلاف بين أم المؤمنين عائشة وغيرها من الصحابة أخذت تحامي عن قول عائشة لا لشيء إلا لأن عائشة امرأة مثلها فتتوهم أنها إذا زعمت أن عائشة أصابت وأن غيرها من الرجال أخطؤوا كان في ذلك إثبات فضيلة لعائشة على ألئك الرجال فتكون تلك فضيلة للنساء على الرجال جميعا)

- وقد يكون الأثر النفسي من منزع مرض عضوي, وفي ذلك يقول ابن حزم معتذرا عن حدته: (ولقد أصابتني علة شديدة ولدت علي ربواً في الطحال شديداً فولد ذلك علي من الضجروضيق الخلق وقلة الصبر والنزق أمراً حاسبت نفسي فيه إذ أنكرت تبدل خلقي واشتد عجبي من مفارقتي لطبعي وصح عندي أن الطحال موضع الفرح إذا فسد تولد ضده.)

-والحق أنه لا تعلق من جهة الطب بخصوص ما قال وإنما قد يكون اضطرابا في الغدة الدرقية فهذا ما يمكن أن يفسد المزاج-

إن الدوافع النفسية كما يقول علماء النفس وثيقة العلاقة بالإدراك والتذكر وطريقة التفكير ,وهذه الدوافع إنما تشخّص من تحليل النتائج مع ملاحظة الاتجاه العام للسلوك ,كاستنتاج الجوع من قصد الطعام, ويسمى الوجه الخفي للدافع بالحافز وهو حالة نفسية من الغضب أو التوتر أو الألم .. إلخ تولد نزوعا إلى نشاط ظاهري, ومن هنا ندرك حكمة الشارع في الحث على "كظم" الغيظ الذي يسميه علماء النفس "كبتاً" وتتجه المدارس الغربية في علم النفس إلى تشجيع "الفضفضة" المنافية للكبت في عرفهم , وهو خلاف توجيه الله سبحانه الذي يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير

وها هنا سؤال قد يثار:إذا ثبت هذا وكان المزاج النفسي والدوافع النفسية مما يؤثر على القرار حتى على مستوى اختيار الفقيه فيما شأنه أن يكون منوطاً بالدليل, فكيف السبيل إلى الحد من التأثير المذكور بحيث يكون القول عرياً عن التأثر بما يحرفه عن جادة المنهج الحق في الاستدلال؟

لقد استوحيت الجواب من حديث"اقتدوا باللذين من بعدي " (رواه أحمد وغيره) وقد صححه ابن خزيمة وابن حبان ,وهما: أبو بكر و عمر رضي الله عنهما، فبالنظر لطبيعة الصديق نلحظ غلبة اللين على نفسيته خلافاً للفاروق فذو طبع شديد ,فهل أثر ذلك عليهما بحيث طغى على الإطار الشرعي؟ يأتيك الجواب عما قليل:

دعاهما النبي صلى الله عليه وسلم في قضية أسارى بدر وقال: (ما ترون في شأن هؤلاء الأسرى؟) قالأبو بكر: يا رسول الله هم بنو العم والعشيرة] تأمل طبيعته النفسية وأثرها على خطابه [، أرى أن تأخذ منهم فدية فتكون لنا قوة على الكفار، فأسأل الله أن يهديهم إلى الإسلام. ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما ترى يا ابن الخطاب؟) فقال: كلا والله يا رسول الله!] لاحظ! [ما أرى الذي رأى أبو بكر ولكن أرى أن تمكنني من فلان -وهو قريب لعمر - فأضرب عنقه، وتمكن علياً من عقيل فيضرب عنقه، فإن هؤلاء أئمة الكفر وصناديدها)

إن المتأمل لكلا الموقفين يلحظ أن نفسية كل واحد لم تخرج عن الإطار الشرعي بل كانت الشرع مهيمنا على رأييهما بدليل المناطات التي استدل بها كل واحد منهما

أما أبو بكر فإن الفدية ورجاء هدايتهم للإسلام ليست من التمييع ,بل حاصلها العود على المسلمين بالنفع والقوة ,وهذا معنى شرعي معتبر فلم تخرجه طبيعته عن أن تكون خاضعة لمقتضى الشرع والدليل, وإنما تكون تمييعاً وطغياناً للطبيعة لو أنه قال مثلا: الإسلام يدعو للتسامح لا إلى الإرهاب!

وأما عمر فقد سوغ رأيه (الذي هو من موافقات عمر لربه) بمعنى شرعي معتبر فقال: هؤلاء أئمة الكفر, ولم يقل مثلا يا لثارات العرب!

بحيث يقال إن الطبيعة أثرت على اختياره على حساب الشرع

وبهذا الضابط تعرف الفرق بين الأثر النفسي المقبول أو المؤيد من جهة الشريعة وبين ما سواه, فلا يفهم من كلامي نزع النوازع النفسية جملة فهذا من طلب المحال ولا هو من مقاصد الشرع, وإنما الجادة أن يكون الطبيعة والهوى وما أشبه مؤطرة بالمناطات الشرعية الصحيحة

إن الغضب في الله والحدة المتمحضة له عبادة شريفة تدل على إيمان صاحبها وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يغضب إلا لله , وقس عليها فلا يفهمن أحد من كلامي أني أنظّر لإيجاد فقيه بارد! ووإنما المراد ألا نجعل العواطف والنوازع النفسية مهيمنة على الدليل فنضل السبيل

ومما يدل على هذا المعنى قول الله سبحانه" لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه"

وعدٌ من الله جل ثناؤه بتأييد المنحاز لله ورسوله ولو على حساب الآباء والأبناء والعشيرة

فلا يقدم عليهما أحداً ولو كان طبيعة نفسه التي بين جوانحه, والتأييد يشمل التسديد في الرمي في القتال والراي في الجدال, ولهذا كانت هذه الآية من حجج ابن تيمية على حجية الإجماع

اللهم فقهنا في الدين , واستعملنا في نصرته , وقنا شر الجهل والهوى واتباع حظوظ النفس والحيد عن ملته

وآخر دعواي أن الحمدلله رب العالين

وصل اللهم على سيدنا محمد

طور بواسطة نورين ميديا © 2015