حدثنا بذلك بن حميد قال ثنا يحيى بن واضح قال ثنا عبد المؤمن قال: سمعت أبا نهيك يقرؤه كذلك. وكأنه وجه معنى الكلام إلى: تسقط النخلة عليك رطبا جنيا.

قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال: إن هذه القراءات الثلاث؛ أعني: تَسَّاقط بالتاء وتشديد السين، وبالتاء وتخفيف السين وبالياء وتشديد السين قراءات متقاربات المعاني قد قرأ بكل واحدة منهن قراء أهل معرفة بالقرآن فبأي ذلك قرأ القارئ فمصيب الصواب فيه ... )). تفسير الطبري ط: دار هجر (15: 513 ـ 514).

وهذه القراءات ليس فيها ـ كما ترى ـ قراءة حفص عن عاصم (تُساقِط) بضم التاء وكسر القاف، ولو كانت عنده لذكرها، وهو كما رأيت ذكر قراءات شاذة، والله أعلم.

المثال الثالث: (وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْب) (القصص: 32).

قال الطبري: ((واختلفت القرأة في قراءة ذلك:

فقرأته عامة قرأة أهل الحجاز والبصرة (من الرَّهَبِ) بفتح الراء والهاء.

وقرأته عامة قرأة الكوفة (من الرُّهْب) بضم الراء وتسكين الهاء.

والقول في ذلك: أنهما قراءتان متفقتا المعنى، مشهورتان في قراء الأمصار، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب)) تفسير الطبري ط: دار هجر (18 246).

ولم يذكر قراءة حفص بفتح الراء وتسكين الهاء (من الرَّهْبِ)، ولو كانت عنده لذكرها، والله أعلم.

المثال الثالث: قوله تعالى: (وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا) (الأحزاب: 13).

قال الطبري: ((والقرأة على فتح الميم من قوله: (لا مَقَامَ لكم) بمعنى لا موضع قيام لكم. وهي القراءة التي لا أستجيز القراءة بخلافها؛ لإجماع الحجة من القرأة عليها.

وذُكِرَ عن أبي عبد الرحمن السلمي أنه قرأ ذلك: (لا مُقَام) لكم بضم الميم يعني لا إقامة لكم)). تفسير الطبري، ط: دار هجر (19: 43).

ولم يورد أن هذه القراءة التي نسبها إلى أبي عبد الرحمن السلمي قرأ بها عاصم من طريق حفص، ولو كانت عنده لذكرها، ومن ثَمَّ، فإنه لا يصحُّ في مثل هذا المقام أن يقال: إن الطبري ردَّ قراءة حفص عن عاصم؛ لأنه لا يعلمها، والله أعلم.

المثال الخامس: قوله تعالى: (أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِباً) (غافر: 37).

قال الطبري: ((وقوله: (فأطلع إلى إله موسى) اختلف القرأة في قراءة قوله: (فأطلع):

فقرأت ذلك عامة قرأة الأمصار (فأطلعُ) بضم العين ردًّا على قوله: (أبلغُ الأسباب) وعطفا به عليه.

وذُكِر عن حميد الأعرج أنه قرأ (فأطلعَ) نصبًا جوابا لِـ (لعلِّي)، وقد ذكر الفراء أن بعض العرب أنشده:

عل صروف الدهر أو دُولاتها

يدلننا اللمة من لَمَّاتِها

فتستريحَ النفس من زفراتها

فنصب فتستريحَ على أنها جواب لِلَعَلَّ

والقراءة التي لا أستجيز غيرها الرفعُ في ذلك؛ لإجماع الحجة من القراء عليه)). تفسير الطبري، ط: دار هجر (20: 326 ـ 327).

وهذه القراءة التي نسبها إلى حميد، ولم يستجزها هي قراءة حفص عن عاصم، ولكنه لم يذكرها عنه؛ لأنها ليست عنده روايةً، وهذه كسابقتها، فلا يقال: عن الطبري ردَّ قراءة حفصٍ عن عاصمٍ، وإنما يصح ذلك لو انه نصَّ على هذا السند من الرواية ثمَّ ردَّه، والله أعلم.

وبعد هذه الأمثلة لعله يظهر لك جليًّا أن قراءة حفص عن عاصمٍ لم تكن من مرويات الطبري رحمه الله تعالى، لذا لا يُشنَّع عليه بردِّ القراءة التي انفرد بها حفص، بزعم أنها قراءة حفص عن عاصم، وأنها متواترة، فتأمل ذلك جيِّدًا تسلم من عيبِ هذا الإمام بما ليس فيه.

وقبل أن أختم هذا البحث أذكر مسألة، ثمَّ مسردًا لانفرادات حفص لتراجع تعامل الطبري معها إن شئت.

أولاً: المسألة العلمية:

إذا ثبت أنَّ الطبري لم يُسند قراءة عاصم من طريق حفص، وليست هذه الرواية من مروياته في القراءة، فإنه لا يحسن رسم الكلمة التي انفرد بها حفص على ما يوافق قراءته؛ لأن الإمام الطبري لا يفسر القرآن برواية حفص عن عاصم، وسأذكر لك مثالاً يوضِّح وقوع اللبس على محقِّقي تفسير الطبري الفضلاء في دار هجر.

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015