ثمَّ رأيت من الغد الشيخ المقرئ محمد بن عوض زايد الحرباوي أستاذ القراءات في قسم الدراسات القرآنية بكلية المعلمين بالرياض، فعرضت عليه كلام الطبري، فاستغربه، فذكرت ما توقعته من كون سند حفص ليس من مرويات الطبري.
فقال لي: لو رجعت إلى كتابي (مفردات القراءات العشرة من طريق الشاطبية والدرة) إلى قراءة ((معذرةً)) بالنصب فإنها من مفردات حفص، ونظرت ماذا يقول فيها، فلما اطلعت على كتابه ـ وهو نفيس في هذا الباب ـ تتبعت كل مفردات حفص، وقرأت تعليقات الطبري عليها، فظهر لي بجلاءٍ ما توصلت إليه ـ وسيظهر لك ـ أيها القارئ الكريم ـ من خلال الأمثلة التي سأستعرضها لك إن شاء الله.
وأثناء بحثي في هذه المفردات وعرضها على تفسير الطبري اتصل بي الأخ الباحث حسين المطيري أستاذ القرآن بقسم الدراسات القرآنية بكلية المعلمين بالرياض، فعرضت عليه ما توصلت له، فطرب له واستحسنه، وذكر لي فائدة نفيسة تتعلق بطريقي عاصم، وهو أن طريق شعبة هو المقدم عند المتقدمين، ولعل هذا يشير إلى عدم ورود سند حفص عند الطبري، وهذه الفائدة نصٌّ لابن مجاهد في كتاب السبعة (ص: 71)، قال فيه: ((وإلى قراءة عاصم صار بعض أهل الكوفة وليست بالغالبة عليهم؛ لأن أضبط من أخذ عن عاصم أبو بكر بن عياش ـ فيما يقال ـ لأنه تعلمها منه تعلما خمسا خمسا.
وكان أهل الكوفة لا يأتمون في قراءة عاصم بأحد ممن يثبتونه في القراءة عليه إلا بأبي بكر بن عياش، وكان أبو بكر لا يكاد يُمَكِّن من نفسه من أرادها منه، فقلَّتْ بالكوفة من أجل ذلك، وعَزَّ من يحسنها، وصار الغالب على أهل الكوفة إلى اليوم قراءة حمزة بن حبيب الزيات)).
وإذا تأملت هذا النصَّ ظهر لك أن قراءة حفص عن عاصم في وقت الطبري (ت: 310) الذي كان في طبقة شيوخ ابن مجاهد (ت: 324) لم يكن لها قبول كغيرها.
وبعد ذكري لك قصة هذه الفائدة أذكر لك أمثلة من تفسير الطبري تدلُّ على أنه لم يكن عنده سند حفص عن عاصم:
المثال الأول: قوله تعالى: (وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً) (الكهف:59).
قال الطبري: ((واختلفت القراء في قراءة قوله: (لمهلكهم):
فقرأ ذلك عامة قراء الحجاز والعراق (لِمُهْلَكِهم) بضم الميم وفتح اللام، على توجيه ذلك إلى أنه مصدر من أهلكوا إهلاكا
وقرأه عاصم (لِمَهْلَكهم) بفتح الميم واللام على توجيهه إلى المصدر من هلكوا هلاكا ومهلكا.
وأولى القراءتين بالصواب عندي في ذلك قراءة من قرأه (لِمُهْلَكهم) بضم الميم وفتح اللام؛ لإجماع الحجة من القراء عليه، واستدلالا بقوله: (وتلك القرى أهلكناهم)؛ فأن يكون المصدر من (أهلكنا) إذ كان قد تقدم قبله أَولى)). تفسير الطبري، ط: دار هجر (15: 306 ـ 307).
في هذا المثال ذكر قراءتين فقط: الأولى قراءة الجمهور، والثانية قراءة عاصم، وهي من طريق شعبة بن عياش.
ولم يذكر القراءة الثالثة، وهي قراءة حفص عن عاصم (لِمَهْلِكِهم) بفتح الميم وكسر اللام.
ولو كانت عنده لما تركها، وقد ذكر قراءة عاصم بنصِّها.
المثال الثاني: قوله تعالى (وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً) (مريم:25).
قال الطبري: ((واختلف القرأة في قراءة قوله: (تساقط):
فقرأ ذلك عامة قرأة المدينة والبصرة والكوفة (تَسَّاقط) بالتاء من تساقط وتشديد السين بمعنى تتساقط عليك النخلة رطبا جنيا ثم تدغم إحدى التاءين في الأخرى فتشدد، وكأن الذين قرؤوا ذلك كذلك وجهوا معنى الكلام إلى: وهزي إليك بجذع النخلة تسَّاقط النخلة عليك رطبا جنيَا.
وقرأ ذلك بعض قراء الكوفة: (تَسَاقط) بالتاء وتخفيف السين، ووجهوا معنى الكلام إلى مثل ما وجَّهه إليه مشددوها غير أنهم خالفوهم في القراءة.
وروي عن البراء بن عازب أنه قرأ ذلك: (يَسَّاقط) بالياء.
حدثني بذلك أحمد بن يوسف، قال: ثنا القاسم، قال: ثنا يزيد، عن جرير بن حازم، عن أبي إسحاق، قال سمعت البراء بن عازب يقرؤه كذلك.
وكأنه وجه معنى الكلام إلى: وهزي إليك بجذع النخلة يتساقط عليك رطبًا جنيًا.
وروي عن أبي نهيك أنه كان يقرؤه (تُسقِط) بضم التاء وإسقاط الألف.
¥