وهذا كما أن الحاكم ليس له أن ينقض حكم غيره في مثل هذه المسائل، ولا للعالم والمفتي أن يلزم الناس باتباعه في مثل هذه المسائل؛ ولهذا لما استشار الرشيد مالكا أن يحمل الناس على [موطئه] في مثل هذه المسائل منعه من ذلك. وقال: إن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تفرقوا في الأمصار وقد أخذ كل قوم من العلم ما بلغهم. وصنف رجل كتابا في الاختلاف فقال أحمد: لا تسمه [كتاب الاختلاف] ولكن سمه [كتاب السنة] (1). ولهذا كان بعض العلماء يقول: إجماعهم حجة قاطعة واختلافهم رحمة واسعة. وكان عمر بن عبد العزيز يقول: ما يسرني أن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يختلفوا؛ لأنهم إذا اجتمعوا على قول فخالفهم رجل كان ضالا، وإذا اختلفوا فأخذ رجل بقول هذا ورجل بقول هذا كان في الأمر سعة. وكذلك قال غير مالك من الأئمة: ليس للفقيه أن يحمل الناس على مذهبه.
ولهذا قال العلماء المصنفون في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أصحاب الشافعي وغيره: إن مثل هذه المسائل الاجتهادية لا تنكر باليد، وليس لأحد أن يلزم الناس باتباعه فيها؛ ولكن يتكلم فيها بالحجج العلمية، فمن تبين له صحة أحد القولين تبعه، ومن قلد أهل القول الآخر فلا إنكار عليه.
ونظائر هذه المسائل كثيرة مثل: تنازع الناس في بيع الباقلا الأخضر في قشرته، وفي بيع المقاثي جملة واحدة، وبيع المعاطاة، والسلم الحال، واستعمال الماء الكثير بعد وقوع النجاسة فيه إذا لم تغيره، والتوضؤ من مس الذكر، والنساء، وخروج النجاسات من غير السبيلين، والقهقهة، وترك الوضوء من ذلك، والقراءة بالبسملة سرا أو جهرا وترك ذلك، وتنجيس بول ما يؤكل لحمه وروثه أو القول بطهارة ذلك، وبيع الأعيان الغائبة بالصفة وترك ذلك، والتيمم بضربة أو ضربتين إلى الكوعين أو المرفقين، والتيمم لكل صلاة أو لوقت كل صلاة أو الاكتفاء بتيمم واحد، وقبول شهادة أهل الذمة بعضهم على بعض أو المنع من قبول شهادتهم.
ومن هذا الباب: الشركة بالعروض، وشركة الوجوه، والمساقاة على جميع أنواع الشجر، والمزارعة على الأرض البيضاء؛ فإن هذه المسائل من جنس شركة الأبدان؛ بل المانعون من هذه المشاركات أكثر من المانعين من مشاركة الأبدان، ومع هذا فما زال المسلمون من عهد نبيهم وإلى اليوم في جميع الأعصار والأمصار يتعاملون بالمزارعة والمساقاة ولم ينكره عليهم أحد، ولو منع الناس مثل هذه المعاملات لتعطل كثير من مصالحهم التي لا يتم دينهم ولا دنياهم إلا بها. ولهذا كان أبو حنيفة يفتي بأن المزارعة لا تجوز ثم يفرع على القول بجوازها ويقول: إن الناس لا يأخذون بقولي في المنع؛ ولهذا صار صاحباه إلى القول بجوازها كما اختار ذلك من اختاره من أصحاب الشافعي وغيره. اهـ
7 – وقال – رحمه الله –في التسعينية (1/ 177): ومن المعلوم أنَّ هذا من المنكرات المحرمة بالعلم الضروري من دين المسلمين؛ فإن العقاب لا يجوز أن يكون [إلا] (2) على ترك واجب أو فعل محرم، ولا يجوز إكراه أحدٍ على ذلك؛ والإيجاب والتحريم ليس إلا لله ولرسوله؛ فمن عاقب على فعل أو ترك بغير أمر الله ورسوله، وشرع ذلك ديناً فقد جعل لله نداً، ولرسوله نظيراً، بمنزلة المشركين الذين جعلوا لله أنداداً، وبمنزلة المرتدين الذين آمنوا بمسيلمة الكذاب، وهو ممن قيل فيه: " أم لهم شركاؤا شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله " [الشورى: 21]، ولهذا كان أئمة أهل السنة والجماعة لا يلزمون الناس بما يقولونه من موارد الاجتهاد، ولا يكرهون أحداً عليه؛ ولهذا استشار هارون الرشيد مالك بن أنس في حمل الناس على موطئه، فقال له: لا تفعل يا أمير المؤمنين، فإن أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – تفرقوا في الأمصار فأخذ كل قوم عمن كان عندهم، وإنما جمعت علم أهل بلدي – أو كما قال –.
وقال مالك – أيضاً –: إنما أنا بشر أصيب وأخطئ، فاعرضوا قولي على الكتاب والسنة.
وقال أبو حنيفة: هذا رأيي؛ فمن جاءنا برأي أحسن منه = قبلناه.
وقال الشافعي: إذا صح الحديث؛ فاضربوا بقولي الحائط.
وقال: إذا رأيت الحجة موضوعة على الطريق؛ فإني أقول بها.
¥