وإذا كان هذا في القضاة المُوَلين من قبل ولي الأمر بشروط معينة، فغيرهم كذلك؛ بل من باب أولى.
الدليل الثامن: أنَّ الفقهاء ذكروا أنَّه إذا اجتهد مجتهدان، فاختلفا في جهة القبلة، أنَّه لا يتبع أحدهما الآخر؛ أما المقلد فإنه يتبع أوثقهما عنده.
وجه الاستدلال: أنَّ الاختلاف في جهة القبلة لا يكون إلا في السفر، والمسلمون المسافرون مأمورون بتأمير أحدهم؛ فإذا وقع الاختلاف في القبلة فيعمل المجتهد باجتهاده – وإن خالف الأمير –، ويعمل المقلد بعمل الأوثق والأعلم عنده – وإن خالف الأمير –.
فتقاس هذه المسألة على مسألتنا؛ فليس للحاكم أن يجبر الناس على رأيه، وعلى المجتهد أن يعمل باجتهاده – وإن خالف ولي الأمر –، وعلى المقلد سؤال أهل العلم والعمل بما يفتون به – وإن خالف قول ولي الأمر –.
ويناقش هذا الدليل بما يلي: 1 – أنَّ هذه المسألة ليست محل اتفاق بين العلماء؛ ولا يصح القياس على أصل متنازع فيه.
2 – أنَّ سبب المنع من تقليد أحدهما الآخر هو: أنَّ كل واحدٍ منهما يعتقد أنه ترك أمراً مجمعاً عليه، وهو: استقبال الكعبة – كما ذكر ذلك القرافي في الفروق 2/ 188 – ونحن نتفق معكم في أنَّ المسائل المجمع عليها ليس لولي الأمر – فضلاً عن غيره – أن يأمر بخلافها.
الدليل التاسع: عن عبد الله بن عمر – رضي الله عنهما – قال: بعث النبي – صلى الله عليه وسلم – خالد بن الوليد إلى بني جذيمة، فدعاهم إلى الإسلام؛ فلم يحسنوا أن يقولوا: أسلمنا، فجعلوا يقولون: صبأنا. صبأنا! فجعل خالد يقتل منهم ويأسر، ودفع إلى كل رجلٍ منَّا أسيره؛ حتى إذا كان يومٌ أمرَ خالد أن يقتل كل رجلٍ منَّا أسيره. فقلت: والله لا أقتل أسيري، ولا يقتل رجلٌ من أصحابي أسيره، حتى قدمنا على النبي – صلى الله عليه وسلم – فذكرناه. فرفع النبي – صلى الله عليه وسلم – يديه، فقال: اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد.
وجه الاستدلال: يستدل به من وجهين:
الوجه الأول: أنَّ ابن عمر – رضي الله عنهما – ومن معه، لم يمنعهم من كون خالد بن الوليد هو قائدهم وأميرهم أن يخالفوه عندما حصل عندهم شك في جواز ما أمر به؛ فكيف لو كان ذلك فيما رأوا أنه حرام؟!
الوجه الثاني: أن النبي – صلى الله عليه وسلم – لم يعتب على الصحابة الذين عصوا الأمير عندما شَكُّوا في جواز ما أمرهم به.
ـ[عبد الله المزروع]ــــــــ[21 - Nov-2006, مساء 09:05]ـ
وأخيراً؛ إليك بعض نصوص العلماء التي وقفت عليها في هذه المسألة، وأكثرها نقول عن شيخ الإسلام – رحمه الله –؛ فمنها:
1 – قال شيخ الإسلام – رحمه الله – في كلامه على ابن مخلوف كما في المجموع (3/ 235): ... هل ادعى أحد عليَّ دعوى مما يحكم به؟ أم هذا الذي تكلمتُ فيه هو من أمر العلم العام؟ مثل تفسير القرآن، ومعاني الأحاديث، والكلام في الفقه، وأصول الدين. وهذه المرجع فيها إلى من كان من أهل العلم بها، والتقوى لله فيها، وإن كان السلطان والحاكم من أهل ذلك تكلم فيها من هذه الجهة، وإذا عزل الحاكم لم ينعزل ما يستحقه من ذلك، كالإفتاء ونحوه، ولم يقيد الكلام في ذلك بالولاية.
وإن كان السلطان والحاكم ليس من أهل العلم بذلك ولا التقوى فيه لم يحل له الكلام فيه، فضلًا عن أن يكون حاكمًا.
2 – وقال – رحمه الله – في المجموع (3/ 238): والأمة إذا تنازعت ـ في معنى آية، أو حديث، أو حكم خبري، أو طلبي ـ لم يكن صحة أحد القولين، وفساد الآخر ثابتًا بمجرد حكم حاكم، فإنه إنما ينفذ حكمه في الأمور المعينة دون العامة.
ولو جاز هذا لجاز أن يحكم حاكم بأن قوله تعالى: " يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوَءٍ " [البقرة: 228] هو الحيض والأطهار، ويكون هذا حكمًا يلزم جميع الناس قوله،
أو يحكم بأن اللمس في قوله تعالى: " أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء " [المائدة: 6] هو الوطء، والمباشرة فيما دونه،
أو بأن الذي بيده عقدة النكاح هو: الزوج، أو الأب، والسيد وهذا لا يقوله أحد.
¥