إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم، يهدي لكل سبيل قيم، ولكل طريق مستقيم، ولكل أدب حسن، ولكل فضيلة، ولكل خلق كريم، إنه كتاب الله، فحري بمن وفق لتلاوته ثم وفق لحفظه، أو حفظ كثيرا منه، أن يشكر الله على هذه النعمة، ويحمده على هذا الفضل، ويسأله أن يجعل ما حفظه حجة له، وأن يكون شافعا له يوم قدومه على الله، قال عز وجل: ? إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ * لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ ? [سورة فاطر: 29 - 30]، فتأمل هذه الآية: ? إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ ?، أي لن تخسر، ولن يلحقها خسارة ولا دمار، لكنها التجارة الرابحة، والتجارة الباقية، والتجارة المثمرة، والتجارة التي سينتفع بها صاحبها أحوج ما كان إليه: ? ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ *جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ ? [سورة فاطر: 32 - 33]،
فالكتاب لا يحمله ولا يستقر في قلب، إلا في قلب من آمن به حقا وأخلص لله حقا، وهم الذين اصطفاهم الله من عباده، اصطفاهم فاختارهم لأن يكونوا حملة لكتابه، اختارهم لأن يكون القرآن في صدورهم، اختارهم لأن يكونوا أهل تلاوة له يتلذذون بتلاوته، ويخشعون عند تلاوته، ويتأدبون بآدابه فينطق اللسان، ويتأثر القلب، وتزكو الجوارح، وتستقيم الأحوال.
إن الناس حيال القرآن ثلاث طوائف، فمنهم الظالمون لأنفسهم، وهم الذين أخلوا بشيء من الواجبات أو اقترفوا بعض المحرمات، ومنهم مقتصد، من فعل الواجب وترك المحرم، ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله، أدى الواجبات والمستحبات، وترك المحرمات، وتورع عما يخشى فيه من شبهة الحرام، فهؤلاء السابقون بالخيرات بإذن ربهم، وتوفيقه لهم: ? ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ * جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ * وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ * الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ ? [سورة فاطر: 32 - 35]، هذا جزاؤهم، وهذا مآلهم، وعاقبة أمرهم، لكنها تحتاج إلى الإخلاص لله قبل كل شيء، فإن أحد الثلاثة الذين هم أول من تسعر بهم النار، من أوقفه الله بين يديه، فعرفه نعمه فعرفها، فقال: ماذا عملت فيها؟ قال: قرأت فيك القرآن وتعلمت فيك العلم، قال: كذبت قرأت ليقال قارئ وتعلمت العلم ليقال عالم، فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه في النار، تلك مسألة عظمى، هي الإخلاص لله في تلاوته وحفظه، وألا نجعله وسيلة للفخر، ولا للتعلي، ولا للبروز، ولكن وسيلة للإيمان، وسيلة للتقوى، وسيلة للأدب الحسن، وسيلة للخلق الكريم.
والسلف كانوا يميزون أهل القرآن بأخلاقهم العالية، وصفاتهم الطيبة، وسمتهم الحسن، يقول ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ: ينبغي لقارئ القرآن أن يعرف بليله إذا الناس نائمون، وبصيامه إذا الناس يفطرون، وبحزنه إذا الناس يفرحون، يعني بذلك أن قارئ القرآن قد تأثر بالقرآن، فرأى قيام الليل فقام، وحث على التطوع في الصيام فصام، وكان ورعا خائفا من الله، ذا ندم على نفسه، من أن تزل به القدم، فهو على حذر دائم إلى أن يلقى الله يوم لقائه.
¥