أَمَّا الطَّعَامُ فَكُلْ لِنَفْسِك مَا تَشَا ... وَاجْعَلْ لِبَاسَك مَا اشْتَهَاهُ النَّاسُ
وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُرُوءَةَ أَنْ يَكُونَ الْإِنْسَانُ مُعْتَدِلَ الْحَالِ فِي مُرَاعَاةِ لِبَاسِهِ مِنْ غَيْرِ إكْثَارٍ وَلَا اطِّرَاحٍ، فَإِنَّ اطِّرَاحَ مُرَاعَاتِهَا وَتَرْكَ تَفَقُّدِهَا مَهَانَةٌ وَذُلٌّ، وَكَثْرَةَ مُرَاعَاتِهَا وَصَرْفَ الْهِمَّةِ إلَى الْعِنَايَةِ لَهَا دَنَاءَةٌ وَنَقْصٌ. وَرُبَّمَا تَوَهَّمَ بَعْضُ مَنْ خَلَا مِنْ فَضْلٍ، وَعَرِيَ عَنْ تَمْيِيزٍ أَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْمُرُوءَةُ الْكَامِلَةُ، وَالسِّيرَةُ الْفَاضِلَةُ؛ لِمَا يَرَى مِنْ تَمَيُّزِهِ بِذَلِكَ عَنْ الْأَكْثَرِينَ، وَخُرُوجِهِ عَنْ جُمْلَةِ الْعَوَامّ الْمُسْتَرْذَلِينَ. وَخَفِيَ عَلَيْهِ أَنَّهُ إذَا تَعَدَّى طَوْرَهُ، وَتَجَاوَزَ قَدْرَهُ، كَانَ أَقْبَحَ لِذِكْرِهِ، وَأَبْعَثَ عَلَى ذَمِّهِ.
فَكَانَ كَمَا قَالَ الْمُتَنَبِّي:
لَا يُعْجِبَنَّ مُضِيمًا حُسْنُ بِزَّتِهِ ... وَهَلْ يَرُوقُ دَفِينًا جَوْدَةُ الْكَفَنِ
وَحَكَى الْمُبَرِّدُ أَنَّ رَجُلًا مِنْ قُرَيْشٍ كَانَ إذَا اتَّسَعَ لَبِسَ أَرَثَّ ثِيَابِهِ، وَإِذَا ضَاقَ لَبِسَ أَحْسَنَهَا، فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ: إذَا اتَّسَعْتُ تَزَيَّنَتْ بِالْجُودِ، وَإِذَا ضِقْتُ فَبِالْهَيْئَةِ. وَقَدْ أَتَى ابْنُ الرُّومِيِّ بِأَبْلَغَ مِنْ هَذَا الْمَعْنَى فِي شَعْرِهِ فَقَالَ:
وَمَا الْحُلِيُّ إلَّا زِينَةٌ لِنَقِيصَةٍ ... يُتَمِّمُ مِنْ حُسْنٍ إذَا الْحُسْنُ قَصَّرَا
فَأَمَّا إذَا كَانَ الْجَمَالُ مُوَفِّرًا ... لِحُسْنِكَ لَمْ يَحْتَجْ إلَى أَنْ يُزَوَّرَا
وَلِذَلِكَ قَالَتْ الْحُكَمَاءُ: لَيْسَتْ الْعِزَّةُ حُسْنَ الْبِزَّةِ.
وَقَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ:
وَتَرَى سَفِيهَ الْقَوْمِ يُدَنِّسُ عِرْضَهُ ... سَفَهًا وَيَمْسَحُ نَعْلَهُ وَشِرَاكَهَا
وَإِذَا اشْتَدَّ كَلَفُهُ بِمُرَاعَاةِ لِبَاسِهِ قَطَعَهُ ذَلِكَ عَنْ مُرَاعَاةِ نَفْسِهِ وَصَارَ الْمَلْبُوسُ عِنْدَهُ أَنْفَسَ، وَهُوَ عَلَى مُرَاعَاتِهِ أَحْرَصُ.
وَقَدْ قِيلَ فِي مَنْثُورِ الْحِكَمِ: الْبَسْ مِنْ الثِّيَابِ مَا يَخْدُمُك وَلَا يَسْتَخْدِمُك. وَقَالَ خَالِدُ بْنُ صَفْوَانَ لِإِيَاسِ بْنِ مُعَاوِيَةَ: أَرَاك لَا تُبَالِي مَا لَبِسْت؟ فَقَالَ: أَلْبَسُ ثَوْبًا أَقِي بِهِ نَفْسِي أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ ثَوْبٍ أَقِيهِ بِنَفْسِي. فَكَمَا أَنَّهُ لَا يَكُونُ شَدِيدَ الْكَلَفِ بِهَا فَكَذَلِكَ لَا يَكُونُ شَدِيدَ الِاطِّرَاحِ لَهَا. فَقَدْ حُكِيَ عَنْ ابْنِ عَائِشَةَ «أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إلَى