سنتحدث أولاً حول وقوع الاختلاف، وكونه أمراً قدرياً كونياً قدر الله وجوده، وقد دلت الأدلة القاطعة من الكتاب والسنة على وجود الاختلاف بين بني البشر، وأن الله قدر ذلك عليهم، قال الله تعالى: {وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [يونس:19]، فبين الله سبحانه أن كلمته السابقة وقضاءه الأول في تأجيل الخلق إلى أجل معدود لا يقضى بينهم قبله في اختلافاتهم.
معناه: أن الاختلافات سوف تظل لا يقضى فيها إلى الأجل: ((وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ)).
إذاً: القضاء في الاختلافات كلها إنما يتم يوم القيامة، والفصل الكامل إنما يكون يوم القيامة، وسيظل الاختلاف موجوداً قدراً.
وقال تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [هود:118 - 119] في تفسير قوله: (وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ) ثلاثة أقوال لأهل العلم: الأول: أنه للاختلاف خلقهم، وهذا قول الحسن في رواية، وأيضاً رواية عن ابن عباس رضي الله عنه، وقوله: (ولذلك) الإشارة فيها إلى الاختلاف المذكور في قوله: {وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} [هود:118 - 119].
القول الثاني: أن: (لذلك خلقهم)، تعود على الرحمة، في قوله: (إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم)، روى ابن وهب عن طاوس: أن رجلين اختصما إليه فأكثرا، فقال طاوس: اختلفتما وأكثرتما، فقال أحد الرجلين: لذلك خلقنا، فقال طاوس: كذبت، فقال: أليس الله يقول: {وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} [هود:118 - 119]؟ قال: لم يخلقهم ليختلفوا ولكن خلقهم للجماعة والرحمة، وفي الرواية الأخرى عن ابن عباس ذكر هذا القول أيضاً، قال: للرحمة خلقهم ولم يخلقهم للعذاب.
والمتأمل لهذا الأثر يجد فيه بياناً واضحاً لما أراد طاوس أن يقوله لهذا الرجل الذي قال: لذلك خلقنا، كأنه تصور أن الخلاف مطلوب شرعاً، ولذلك هو يماري ويجادل ويكثر، ويرى أن الخلاف أمر مطلوب شرعاً، فكذبه طاوس بذلك، فلما احتج عليه بالآية، بين له أن الأمر الشرعي الذي من أجله خلقوا هو الاجتماع والرحمة والعبادة لله عز وجل والطاعة، ولم يشرع الله لهم الاختلاف، فالرجل كان يرى شرعية الاختلاف، وليس أنه أمر قدري كوني فقط، فرد عليه طاوس ذلك.
القول الثالث: وهذا القول هو الذي جمع بين القولين السابقين، حيث أن كل قول نظر من وجهة معينة، وليس بينهما تناقض بل هو تفسير تنوع واختلاف تنوع، قال أصحاب هذا القول: المراد للرحمة والاختلاف خلقهم، قال الحسن: الناس مختلفون على أديان شتى إلا من رحم ربك؛ فمن رحم ربك غير مختلف، فقيل له: (لذلك خلقهم) قال: خلق هؤلاء لجنته، وخلق هؤلاء لناره خلق هؤلاء لعذابه وخلق هؤلاء لرحمته.
وكذا قال عطاء والأعمش ومالك واختاره ابن جرير، والحق أنه لا تعارض بين هذه الأقوال، فمن قال: للاختلاف خلقهم.
فهو يعني أن هذه هي الحكمة القدرية الكونية الواقعة وإن لم تكن محبوبة لله عز وجل، فاللام لام التعليل لبيان الحكمة الكونية، ومن قال: إنه للرحمة خلقهم ولم يخلقهم للعذاب.
فهو يعني الأمر الشرعي الذي أمروا به، كما أنكر طاوس على ذلك الرجل الذي أراد تقرير مشروعية الاختلاف محتجاً بالآية، فقال له: كذبت.
فليس هذا الاختلاف بمراد شرعاً، فيكون اسم الإشارة (ذلك) راجعاً إلى الرحمة، واللام لبيان الحكمة الشرعية، مثل قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56]، أي: ليأمرهم بعبادته أمراً شرعياً، فالله أمر العباد بالاجتماع والرحمة التي هي ثمرة من ثمرات الاجتماع على طاعة الله وعلى دين الله، وليس الاختلاف أمراً مشروعاً، فالقول الثالث جمع بين القولين، فأهل طاعة الله المنفذون لأمر الله الشرعي هم أهل رحمته سبحانه، وأما أهل الاختلاف المفارقون للحق الذي شرعه الله لهم فهم لم يخرجوا عن قضائه وكونه وحكمته القدرية، وقدر الله وجودهم لكي يفترقوا ويختلفوا، ويملأ الله بهم جهنم عدلاً منه وحكمة، ولذا قال: {وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [هود:119]، فهؤلاء المخالفون للحق تملأ بهم جهنم حكمة من الله سبحانه وتعالى.
وقال تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} [البقرة:253].
فبين سبحانه أن اختلافهم بمشيئته، وإن كان المختلفون منهم المؤمن المحبوب، ومنهم الكافر الذي يبغضه الله عز وجل؛ لأن حب الله وبغضه سبحانه تابع لإرادته الشرعية وأوامره على ألسنة رسله، يعني: من آمن وعمل بما شرع الله من الصالحات فهو محبوب عند الله، ومن كفر -وإن كان بمشيئة الله- فهو مبغوض عند الله سبحانه وتعالى.
ومن الأدلة على ذلك: قوله سبحانه وتعالى: {وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ} [الشورى:14].
فهذه الآية الكريمة تبين سبب الخلاف المذموم الذي ذم الله عليه أهل الكتاب رغم وجود العلم وهو البغي -وسوف يأتي بيانه أكثر إن شاء الله في أسباب الاختلاف المذموم- لكنه لسبق الكلمة من الله أن يظل الاختلاف، وأن يقع قدر الله فلا يفصل في الأمر ويظل الناس مختلفين.
وقال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ} [هود:110]، فبين عز وجل أن الاختلاف قديم، وقد افترقت اليهود، ولولا الكلمة السابقة من الله لقضي بينهم، (وإنهم) أي: الذين أورثوا الكتاب من بعدهم (لفي شك منه) من الكتاب (مريب) بسبب اختلافهم في نصوصه وفي فهمه، وهذا بالنسبة لمن سبقنا، أما في أهل الإسلام فالنصوص متفق عليها، والخلاف لا يكون إلا في الفهم.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن اليهود افترقت على إحدى وسبعين فرقة، وإن النصارى افترقت على اثنتين وسبعين فرقة، وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة وهم الجماعة)، وفي رواية الحاكم في مستدركه: (ما أنا عليه وأصحابي)، حديث حسن.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً)، إذاً: هذا أمر قدري كوني أنه سيقع الاختلاف وتفترق الأمة.
قال عليه الصلاة والسلام: (فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور؛ فإن كل بدعة ضلالة) صححه الترمذي وغيره.
فدلت هذه الأدلة على أن الاختلاف بين الناس واقع لا محالة، وقضاء الله فيه نافذ لسبق الكلمة منه سبحانه بتأجيل الفصل والقضاء بين الناس فيه إلى أجل مسمى، ولكن هل يعني ذلك أن نستسلم لهذا القدر ونقول: لا فائدة من الحرص على الاجتماع والتآلف، والبعد عن أسباب الاختلاف؟ هذا الأمر مبني على فهم قضية العلاقة بين الأمور الشرعية والأمور القدرية، فالقول بأنه علينا أن نستسلم لهذا القدر، وأنه مهما حاولنا الاجتماع وترك الاختلاف فلا فائدة، وأن السعي لإزالة الاختلاف مصادمة للمقادير، فهذا الفهم من أخطر المسالك وأبعدها عن الشرع الحنيف.
نعم، هذا الاختلاف من قدر الله الذي أمرنا الله شرعاً أن نفر منه إلى قدر الله المتمثل في الائتلاف والاجتماع، فنحن مأمورون بأن نفر إلى قدر آخر سيقع، ولكن ربما ضيق أو حصر، فبدلاً من أن يكون الاختلاف المذموم، وأن تكون الفرق المخالفة هي الغالبة المنتشرة القوية، نريد أن يتحجم هذا الخلاف؛ لتكون الفرق النارية أقل عدداً، وأضعف تأثيراً وسلطاناً؛ لذلك فالواجب أن ندفع القدر بالقدر، وننازع القدر المكروه بالقدر المحبوب، كما قال عمر: (نفر من قدر الله إلى قدر الله)، وهذا كان في أمر الطاعون الذي تفشى في عهده.
فالواجب اتباع الشرع والإيمان بالقدر لا الاحتجاج بالقدر وترك الشرع، فنحن لا ندري ما الذي سبق به القضاء في حقنا، فإن الله سبحانه فاوت بين الناس في الأزمنة والأمكنة، فقد يكون في زمن ما في مكان ما أكثرهم أو كلهم على الحق، كزمن الصحابة رضي الله عنهم.
وقد يأتي عليهم أزمنة الفتنة فيها ظاهرة، فيقع أكثرهم في الاختلاف المهلك، ويكون أهل السنة قلة ومنحصرين ومغلوبين في السلطان، وإن كانوا غالبين في الحجة، فنحن لا ندري ما سبق به القضاء في حقنا، لكننا مأمورون شرعاً بنبذ الاختلاف، والسعي إلى الاجتماع والائتلاف، قال تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا} [آل عمران:103]، وقال: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ} [آل عمران:105].
نلحظ في الآية الأو