الحمد لله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم، أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
ثم أما بعد: فإن من أهم ما يواجه الصحوة الإسلامية المعاصرة من العقبات والعوائق: الاختلاف بين الاتجاهات الإسلامية المتعددة، ولا شك أن هناك عقبات كثيرة يضعها أعداء الإسلام أمام العمل من أجل إعلاء كلمة الله، وتمكين دين الله عز وجل، ولكن هذه العقبات التي يصنعها الأعداء من الكفار والمنافقين أمرها هين ويسير، كما بين ذلك الله عز وجل بقوله: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} [آل عمران:120].
فمع التقوى والصبر واليقين بوعد الله عز وجل يضمحل كيد المجرمين الأعداء، هذا إذا عمل المؤمنون على الطريقة والصراط المستقيم، وفعلوا كل ما يمكنهم متوكلين على الله سبحانه وتعالى، لكن المشكلة الحقيقية هي فيما يكون داخل العمل الإسلامي نفسه من العقبات الداخلية التي هي من صنع أبناء الصحوة.
ولا شك أن من أكبر المشاكل والعقبات قضية الاختلاف الكبير في فهم الإسلام وتطبيقه، وفي وسائل الدعوة إلى الله، ومناهجها وأهدافها وأولويات العمل الإسلامي.
كان الاختلاف وما زال يصرف كثيراً من عوام المسلمين عن الالتزام بالدين، ويصرفهم عن جميع اتجاهات العمل الإسلامي، وما زال هذا مرضاً مؤثراً لدى الكثيرين، فعندما تسأله: لماذا لا تلتزم؟ يقول: إذا اتفقتم اتبعناكم، وهذا مبرر شيطاني -بلا شك- لدى الشخص غير الملتزم؛ لأن وجود الاختلاف ليس بمبرر لترك الالتزام، كما أن وجود الطعام المسموم لا يعني أن يصوم الإنسان عن سائر الطعام ويمتنع عنه حتى يهلك.
وازداد الأمر سوءاً بحدوث المعارك الكلامية، والاشتباك بالأبدان أحياناً، بل وبالسلاح في أماكن متفرقة من العالم، وسفكت الدماء المحرمة بسبب وجود هذه الاختلافات، وهذا أتاح الفرصة لأعداء الإسلام من الكفار والمنافقين لاستغلال هذا التطاحن.
وكما يقال: تمكنوا من اللعب على وتر التناقض بين الاتجاهات الإسلامية المختلفة لإضعاف الجميع، وكان لهم -للأسف- ما أرادوه، أو كثير مما أرادوه في معظم البلدان الإسلامية التي ظهرت فيها الصحوة الإسلامية، نسأل الله عز وجل أن يبارك فيها وفي أبنائها، وأن يهديهم سواء السبيل.
واندفعت أكثر الاتجاهات الإسلامية في طريقها الذي تراه ملقية باللوم على من خالفها، ومتهمة لهم بالتقصير والفشل، وزادت نبرة الحديث بين الإسلاميين حدة، واشتعلت عباراتهم ومجادلتهم بعبارات نارية وقذائف ملتهبة؛ مما دفع البعض -في محاولة علاج هذه المسألة- إلى نبذ العمل الإسلامي الجماعي جملة، وقالوا: إن سبب هذه الاختلافات والمشاكسات والمحاورات هي وجود الجماعات الإسلامية، والحل هو: نبذ الجماعات الإسلامية بالكلية، وأن يكون الناس آحاداً كل منهم لا دخل له بالآخر، ولا يتجمع الناس حول عمل أو اسم أو قيام بأمر من أمور الدين، ورأوا أن العمل الجماعي بدعة، فصار الاختلاف بين الاتجاهات الإسلامية من أعظم ما يلبس به على الناس في قضية العمل الجماعي.
والبعض يتأول حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم لـ حذيفة عندما سأله قال: (فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام؟ قال: فاعتزل تلك الفرق كلها، ولو أن تعض على أصل شجرة فتموت وأنت عاض عليها)، متفق على صحته.
مع أن تفسيره الذي لا إشكال فيه: أنه منزل على أهل البدع؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال في الشر بعد الخير الذي فيه دخن: (دعاة على أبواب جهنم، من أجابهم إليها قذفوه فيها، قال: يا رسول الله! صفهم لنا؟ قال: هم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان بشر، قال: فما تأمرني؟ قال: الزم جماعة المسلمين وإمامهم، قال: فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام، قال: فاعتزل تلك الفرق كلها ولو أن تعض على أصل شجرة فتموت وأنت عاض عليها).
فالكلام واضح وجلي في أنه يشير بقوله: (تلك): إلى الفرق الداعية إلى أبواب جهنم، وهم يتمثلون في واقعنا المعاصر في المنافقين الذين يصدون عن سبيل الله، كالعلمانيين والقوميين والحزبيين، وأهل البدع كالخوارج والصوفية والشيعة ونحوهم ممن يناصر البدعة ويحارب السنة، فهم دعاة على أبواب جهنم، من أجابهم إليها قذفوه فيها، وأكثرهم من المنافقين الزنادقة الملحدين الذين يريدون هدم الدين، والبعض منهم مغرر به لكنهم في الجملة يدعون إلى النار والعياذ بالله.
فالرسول صلى الله عليه وسلم أمر باعتزال تلك الفرق، ولم يأمر باعتزال أهل العلم وأهل السنة، ولم يأمر بأن يبقى أهل السنة أوزاعاً متفرقين، ولم يأمر بأن يتركوا الاجتماع والتعاون على طاعة الله التي لا تتم إلا بالتعاون وإقامة واجبات الدين، وخصوصاً فروض الكفاية التي افترضها الله عز وجل على أمة الإسلام ككل.
وحمل الحديث على هذا يحمله ما لا يحتمل، وإن كان هذا في الحقيقة غرض خبيث من أغراض أعداء الدين، إلا أنه صار يردده الآن أناس ينتسبون إلى الالتزام والدعوة، بل إلى المنهج السلفي خصوصاً.
وهذا لم يغير من واقع الاختلافات شيئاً، بل زادت الاختلافات حدة حول هذه المسألة وغيرها من المسائل المنهجية، وأصبحت قضية معالجة الاختلاف وقضية العمل الجماعي إضافة إلى كم المسائل المختلف فيها بين الإسلاميين.
وتوقف العمل الإسلامي في كثير من المواطن والبلاد بسبب عدم حسم مسألة العمل الجماعي، أو بسبب الاقتناع بعدم مشروعيته وبدعيته، وبعدم مشروعية الاجتماع على الطاعات، فتعطلت تلك الطاعات التي لا يطيق الأفراد القيام بها، والتي لا يمكن إقامتها ولا إتمامها إلا بالاجتماع في عمل واحد، وفهم واحد، وقيادة واحدة.
وفي ظل وجود هذا الفريق الذي رأى أن المشكلة يكمن علاجها في توقف اجتماع المسلمين من أجل إقامة الواجبات في جماعات مختلفة أو متفقة، وجد فريق آخر على النقيض منه يرى أن كل خلاف بين الفرق والمناهج والجماعات قديماً وحديثاً خلاف سهل يسير لا يضر.
ويتبنى هذا الرأي مفكرون كثيرون ودعاة وجماعات إسلامية كلها بالفعل تتبنى التهوين من شأن الخلاف أياً كان نوعه، وجعل هذا الفريق غايته وهدفه أن يجتمع كل من انتسب إلى الإسلام سنيهم وبدعيهم في إطار شعار واحد، ومنهج فضفاض واسع يتسع للمتناقضات في فهم الإسلام، والعمل به في إطار قاعدة سماها ذهبية، وهي: أن نجتمع فيما اتفقنا فيه، ويعذر بعضناً بعضا فيما اختلفنا فيه.
ونسي في غمرة حماسته الموقف الواجب -الذي دل عليه الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة- من أهل البدع وأهل الفرق النارية التي أخبر عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم أنها في النار، حتى ظن البعض إمكانية التقارب بين أهل السنة وبين شر أهل البدع كالرافضة أو غلاة الصوفية، وهذا الأمر نلمسه تاريخياً وواقعياً فالأستاذ حسن البنا رحمه الله هو الذي أظهر هذه القاعدة التي سميت بالقاعدة الذهبية، وما زال هناك من يتكلم بها، وكمثال لذلك: يذكر الأستاذ عمر التلمساني أنه في الأربعينات حضر أحد رءوس الشيعة لزيارة مركز العمل للإخوان فسئل الأستاذ البنا عن الفرق بين السنة وبين الشيعة؛ إذ أنهم لا يعرفون الفرق، فغضب الأستاذ: حسن البنا رحمه الله وقال: كتابنا واحد، ورسولنا واحد، وقبلتنا واحدة، ثم لما كرروا عليه السؤال قائلين: نحن نريد أن نعرف فقط الفرق، فشدد عليهم بنفس العبارة، ومن يتأمل الأصول العشرون التي تمثل لهذا الاتجاه يلحظ أن عباراتها صيغت بطريقة فضفاضة واسعة في معظم ما يتعلق بمسائل الخلاف بين الاتجاهات الإسلامية.
ومن ضمن هذه المسائل مسألة الصوفية، فصيغت عبارة: نحن دعوة سلفية وحقيقة صوفية، وبالنسبة لمسائل التوسل، فهي خلاف فرعي في كيفية الدعاء، وبالنسبة لمسائل البدع الإضافية فهي محل اجتهاد، يتسع فيها الأمر، أما بالنسبة لمسألة الصحابة والإمامة فهي مسألة الفرق فيها ظاهر جداً بين السنة والشيعة، فقالوا: نمسك عما شجر من خلاف.
وهذه العبارة غير واضحة الدلالة على الخلاف الذي نمسك عنه، هل يقصد به أن نمسك عن الخلاف بين السنة والشيعة، ويدخل كل منا على الآخر ويتواد معه، ونلغي الخلاف في هذه المسألة؟ أم يقصد بذلك ما شجر من خلاف بين الصحابة بعد مقتل عثمان رضي الله تعالى عنه، وما جرى من وقائع بعد ذلك، مع تقديم أبي بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي في الخلافة والفضل؟ وهذا المنهج ما زال موجوداً ومؤثراً في فهم قطاع عريض جداً من الملتزمين بالعمل الإسلامي.
بل وصل بهم الأمر إلى التقارب مع أهل البدع المعاصرة كالعلمانيين مثلاً.
فالاتجاهات العقلانية المسماة أحياناً -إذا كانت تقبل الإسلام كاسم ولا ترده صراحة-: بأصحاب الاتجاه الإسلامي المستنير، وهو اتجاه عقلاني محض يقدم العقل على النقل، ويرجح منهج الاعتزال، وربما وصل الأمر إلى مسائل أخطر من ذلك متعلقة بأمر الاعتقاد وتطبيق الشرع والالتزام به.
ويمكننا أن نمثل لهذا برجل مثل الأستاذ: فهمي هويدي ككاتب إسلامي كبير يقول مثلاً: إن العلمانية منقسمة إلى نوعين: علمانية متطرفة، وعلمانية غير متطرفة، فالعلمانية المتطرفة كالتي في تركيا، والعلمانية غير المتطرفة هي التي تقبل الحوار مع الإسلاميين، فهذه لا بأس من التقارب معها، والوصول إلى حل وسط، والتقارب مع القوميين منهم، ورغم التأكد من علمانيتهم وفصلهم للدين عن الدولة تواصلت الدعاوى إلى أنه ينبغي التقارب معهم وعدم إحداث أي فرقة مع هذا الاتجاه، وهكذا الحال مع الديمقراطيين والحزبيين، وإن لم يحض أبناء الصحوة الإسلامية بنفس هذه الروح من التسامح والتقارب، بل الشدة والغلظة كانت نصيبهم من هذه القاعدة التي سميت: ذهبية.
وهناك أمثلة أخرى داخل الاتجاه السلفي في الجملة -وإن لم تكن