بعد استعراض أنواع الخلاف، نقول: الخلاف في واقع المسلمين اليوم ينتمي إلى أي نوع من أنواع الخلاف حتى أعرف كيف أتعامل معه؟ بالنظر إلى أحوال المسلمين وواقعهم اليوم نجد الساحة الإسلامية تموج بالاختلافات بل المنازعات والصراعات، فتختلف وجهات النظر من الحريصين على وحدة العمل الإسلامي ومستقبل الصحوة حول وسائل معالجة هذا الواقع، فيرى البعض أن التعدد الحاصل بين الاتجاهات الإسلامية والجماعات الإسلامية لا ضرر منه ولا حرج شرعاً من وجوده، ولا يطلب من الجماعات المختلفة أن تسعى إلى الاجتماع؛ لأن كلاً منها على خير وعلى مصالح، ولا شك أن هذه النظرة إنما تصح على بعض أنواع الاختلاف الذي هو اختلاف التنوع، فاختلاف التنوع كله على خير، وهو اختلاف سائغ لأنه عمل صالح.
أما القول بأنه لا يطلب شرعاً السعي إلى الاجتماع فغفلة كبيرة عن الفساد والمنكرات والمعاصي الحاصلة بين الاتجاهات المختلفة بسبب التفرق، والمفترض في اختلاف التنوع التكامل والتعاضد، وهو أمر مفقود إلى حد كبير في أبناء الصحوة باتجاهاتها المختلفة.
وذلك لعدم الانضباط بالضوابط التي حددناها في اختلاف التنوع، منها: ألا يكون هناك تعصب على العمل، أو تحقير لأعمال الآخرين، وأن كل أحد لا يكون تاركاً للواجبات التي عليه بزعم أنه يؤدي هذا الواجب، إذ لا بد أن يحافظ على جميع الواجبات وما فرض عليه من فرض العين ولا يفرط فيه من أجل النوع الآخر من الواجبات التي يقوم بها، فهو من أجل الجهاد يترك طلب العلم الواجب أو الصلاة، أو لأنه يدعو إلى الله عز وجل يترك الجهاد في سبيله، أو لأجل الجهاد يترك العلم الواجب أو الدعوة إلى الله، بل لا بد عليه أن يؤدي فرض العين الذي عليه، ثم بعد ذلك ينشغل بفروض الكفاية، وفي نفس الوقت لا يكون هناك تحقير لعمل الآخرين، من أجل هذا لم يحصل التكامل نتيجة عدم وجود هذه الضوابط.
ويرى البعض أن هذا التعدد والافتراق خير للمسلمين من جهة أن أعداءهم سوف يتركونهم في دعوتهم طالما كانوا مفترقين، أما لو اجتمعوا فسيكون ذلك معجلاً لضربهم.
وهذه النظرة أيضاً قاصرة عن التفريق بين الأمر الشرعي والأمر القدري, فالحكم والمصالح التي يقدرها الله عز وجل من تقدير السيئات، ومن السيئات الافتراق والاختلاف المذموم والتنافس على الدنيا والغيبة والنميمة والوقيعة بين المسلمين.
هذه الحكم لا تجعل طلب السيئات والحرص عليها والفرح بوجودها مشروعاً، بل يجب كراهيتها، حتى لو كان فيها مصلحة، يعني: صحيح أن الفرقة من حكم ربنا وأنه قدرها، لكن لا نقول: دعونا مختلفين، وما يدريك ما يقدره الله في الطاعات لو أطعناه واجتمعنا على كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ربنا سيدفع عنا بسبب ذلك.
نقول: لعل ما يقدره الله في الاجتماع من الخيرات والبر والبركات أضعاف ما نحسبه من حكمة ومصلحة من وراء السيئات، فلا بد أن يكون سعينا للاجتماع -وهو مطلب شرعي سبق بيانه- وعدم الرضا بالافتراق الحاصل، وكثير منه من النوع المذموم بدلالة نتائجه على قلوب أبناء الصحوة.
ولا بد أن نفرق بين الاحتجاج بالقدر والحكمة القدرية على أمر قد مضى وصار من المصائب، وإن كان معه ذنب فتلزم التوبة منه، وبين الاحتجاج بهذه الحكم القدرية في إبقاء هذا الواقع والرضا به واستمراره في المستقبل، فهذا الثاني من جنس الاحتجاج بالقدر على المعائب والذنوب ولا خلاف بين أهل السنة في ذم ذلك.
لماذا نفترض دائماً أن الأعداء إذا أرادوا ضرب المسلمين تم لهم ما أرادوا على الوجه الذي خططوه؟ فليكن لنا في البوسنة دروس، فقد خططوا لإبادة المسلمين لمجرد اسم الإسلام دون حقيقة العمل به، ومع ذلك إذا بالنائم الكامن في النفوس يخرج من نومه وخموله ليقلب موازينهم عليهم.
وهل نظن أننا إذا أطعنا الله سلط الله علينا عدونا أكثر من تسليطه علينا إذا افترقنا، هل هذا من حسن الظن بالله؟ ثم إنه من الممكن أن يتفق المسلمون، ويظهروا عدم اتفاقهم إذا رأوا المصلحة في ذلك، ولكن الجميع يعلم أن هذا غير حق، رغم أن البعض من الأعداء يتوهم ذلك، ويقول للناس: إنها أدوار قسموها فيما بينهم، ويا ليتها تكون أدواراً.
ويحاول البعض الوقوف موقف التوسط بين الاتجاهات الإسلامية المتباينة، ليكون قريباً من الجميع، وهذه كثيرة جداً وبكتابات متعددة، حتى إن بعض أصحاب المشارب السلفية يحاول أن يكون قريباً من الجمع، ويقول: هذا قريب وهذا قريب وهذا خلاف سائغ، ويرى أن الاختلافات المعاصرة كلها من جنس الاختلاف السائغ الذي لا يفسد للود قضية.
ولا شك أيضاً أن هذا الموقف قاصر في نظرته على بعض الاختلافات لا على كل أنواعها، فإن منها بلا شك ما هو مذموم لا تصلح الوسطية المتوهمة فيه، كما أن هذا الموقف يمكن أن يسع أفراداً لكنه لا يسع جماعة أو جمعاً غفيراً من الأفراد؛ لأنهم بذلك الموقف سوف يصبحون تياراً جديداً واتجاهاً جديداً له أنصاره وخصومه ومنازعاته.
وقد أراح البعض نفسه بأن أقنع نفسه وغيره بإنكار التجمع مطلقاً، معللاً ذلك بالعيوب الناشئة عن الجماعات والعصبية الممقوتة التي تظهر في أتباعها، وآثر العمل الفردي وظهرت التجمعات حول أشخاص الدعاة دون وجود أي نظام للعمل على استكمال العمل الإسلامي، والقيام بفروض الكفايات إلا نظام الشيخ والتلميذ، وما قد يقتنع به البعض من أعمال الخير.
ولا يخفى أن هذه النظرة تفتقد الرؤية الصحيحة لمستقبل العمل الإسلامي، ولا تحدد خطوات محددة لتطور العمل والقيام بفروض الكفايات الضائعة، كما أن هذه التجمعات إن قويت فهي جماعة دون مسمى، أو أن مسماها هو ألا جماعة، أو هو اسم قائدها ومعلمها وآراؤه، وليس منهجاً متكاملاً قابلاً للاستمرار والبقاء بعد غياب القائد لموت أو عجز أو غيره، وهذا ما لابد في الصحوة أن تنتبه له، فعمر الأمم والدعوات ليس بعمر الأشخاص، بل عمرها يقاس بالأجيال، وتغيرات الشعوب بما يحتاج إلى عقود أو قرون، فهل نعد دعوتنا لتحمل هذه الرحلة الشاقة؟ أم هي مرتبطة بأشخاصها تذهب بذهابها، وتمرض بمرضها، وتموت بموتها؟ لا شك أن البقاء بإذن الله لا بالنظام والمنهج والجماعة.
والبعض من أصحاب الاتجاهات الإسلامية يعتبر أن جماعته هي المصيبة دائماً في كل خلاف، وأن كل من خالفها فعليه أن يترك جماعته لينضم إليها، فهي نظرة ضيقة فيها الغلو وعدم تقدير واقع أي من الجماعات والاتجاهات الموجودة في هذه الساحة.
بعد هذا الاستعراض السريع لوجهات النظر، فما هو الموقف الذي نراه؟ الجواب وبالله التوفيق: إننا قد ذكرنا خلال بحثنا أنواع الاختلاف، وأمثلةً لكل نوع، وكثير مما ذكرناه هو من واقع العمل الإسلامي والحركات الإسلامية، ويمكننا أن نخلص من الأمثلة المذكورة إلى أن أنواع الاختلاف الثلاثة المذكورة -يعني: أنواع الاختلاف الموجود بين المسلمين هو في الحقيقة يرجع إلى الثلاثة أنواع المذكورة- فمنها ما يرجع إلى اختلاف التنوع، وهذا يجب استثماره والتعاون عليه، ولا يصح أن نسعى لإلغاء هذا الاختلاف؛ لأنه بالتكامل فيه يتم الواجب ويتحقق المقصود بإذن الله بالشروط التي ذكرناها.
ومنها ما يرجع إلى اختلاف التضاد السائغ، وهذا يجب احتماله، وأن يسعنا كما وسع سلفنا الصالح، ولا يفسد الود والمحبة بيننا لوجود هذا النوع من الاختلاف، ولكن يلزم ضبطه جيداً، وبذل الوسع في تحقيقه، والرجوع إلى أمثل أهل العلم عند الاختلاف مع الالتزام بقواعد أهل السنة بذلك.
ومنها ما يرجع إلى اختلاف التضاد غير السائغ، وهذا يجب علاجه، وذلك بمحاربة البدع والضلالات والأقوال الباطلة، والاجتماع على منهج أهل السنة والجماعة، والعمل على نشره بتفاصيله، وهذا يقتضي تحقيق هذا المنهج، وتحديده تحديداً مفصلاً في قضايا العقيدة والعمل والدعوة ومناهج التغيير وغير ذلك.
ولا شك أن أفضل المؤهلين في تحقيق هذه المعالجة المطلوبة هم الجماعات الملتزمة بمنهج أهل السنة على طريقة السلف، فهي تحتاج إلى ترتيب جهودها، وتقارب صفوفها، وبذل الوسع في نشر منهجها، ووحدتها واجتماعها فريضة منشودة، فإن تعدد القيادة في مكان واحد في زمان واحد من الاختلاف المذموم الذي يجر إلى الصراع على الرئاسة وما معه من مفاسد ومحن، نسأل الله العافية منها.
فلا بد لهذه الاتجاهات أن تضع في أولويات عملها تحقيق التواصل فيما بينها للوصول إلى هذه الغاية المطلوبة ووجود منهج أهل السنة في جماعة واحدة قوية كفيل بإذهاب الدخن من الاتجاهات الأخرى على الأقل إن لم يوحد صفوف الأمة كلها خلف قيادة أهل العلم من أهل السنة وتحت لوائها.
{فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ} [الرعد:17].
وليست هذه أحلاماً وردية غير قابلة للتطبيق بل مع التجرد والإخلاص والعمل المستمر، نرجو الله أن يمن على هذه الأمة بوحدتها ورشدها وصلاحها.
فنسأل الله عز وجل أن يؤلف بين قلوبنا، وأن يصلح ذات بيننا، وأن ينصرنا على عدوه وعدونا، اللهم اهدنا سبل السلام وأخرجنا برحمتك إلى النور، واجعلنا هداة مهتدين، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.