ولما رأى خالد ما الناس فيه واختلاط جيشه، أراد أن يميزهم لتدب فيهم روح الغيرة فقال:
امتازوا أيها الناس لنعلم بلاء كل حي ولنعلم من أين نؤتى 1.
وكان أهل البوادي قد جنبوا المهاجرين والأنصار، وجنبهم المهاجرين والأنصار، فلما امتازوا قال بعضهم لبعض: اليوم يستحى من الفرار فما رئي يوم أعظم نكاية، غير أن القتل كان في المهاجرين والأنصار وأهل القرى أكثر منه في البوادي.
وثبت مسيلمة فدارت رحاهم عليه، وأدرك خالد أن الحالة لا تهدأ إلا إذا قتل مسيلمة فحمل عليهم ودعا إلى البراز ونادى بشعار المسلمين يومئذ وكان يا محمداه فلم يبرز إليه أحد إلا قتله، وحمل على مسيلمة ففر وفر أصحابه، وصاح خالد في الناس فهجموا عليهم فكانت الهزيمة، ونادى المحكم بن الطفيل وهو أحد قواد بني حنيفة المشهورين: يا بني حنيفة الحديقة، الحديقة ثم رماه عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق بسهم فوضعه في نحره فقتله، وكان ممن دخل الحديقة مسيلمة، وقال البراء بن مالك: يا معشر المسلمين ألقوني عليهم في الحديقة، فتردد المسلمون خوفا عليه، ثم احتملوه فألقوه، فلما أشرف على الحديقة من الجدار اقتحم فقاتلهم عن باب الحديقة التي كانت مغلقة حتى فتحها للمسلمين فاندفع المسلمون إليها كالسيل الجارف، فأغلق الباب عليهم بعد دخولهم جميعا، ورمى بالمفتاح من وراء الجدار حتى لا يتمكن أحد من الخروج فاقتتلوا قتالا شديدا وقتل مسيلمة، قتله وحشي مولى جبير بن مطعم ورجل من الأنصار كلاهما قد أصابه، ووحشي هذا هو قاتل حمزة كما تقدم في السيرة النبوية، فولت بنو حنيفة عند قتله منهزمة وأخذهم السيف من كل جانب حتى قتلوا عن آخرهم وأخبر خالد بقتل مسيلمة فخرج بمجاعة يرسف في الحديد ليدله على مسيلمة وأخذ يكشف له عن جثث القتلى حتى عثر عليه، فقال مجاعة لخالد: ما جاءك إلا سرعان الناس وإن جماهير الناس لفي الحصون، فقال ويلك ما تقول؟ قال: هو والله الحق فهلم لأصالحك عن قومي، وكان خالد نهكته الحرب وأصيب معه من أشراف الناس من أصيب فقد رق وأحب الدعة والصلح، ثم قال مجاعة: أنطلق إليهم فأشاورهم وننظر في هذا الأمر فأرجع إليك فانطلق ودخل الحصون، وليس فيها إلا النساء والصبيان، ومشيخة فانية ورجال ضعفى فظاهر الحديد على النساء وأمرهن أن ينشرن شعورهن وأن يشرفن على رؤوس الحصون حتى يرجع إليهم ثم رجع فأتى فقال: قد أبوا ما صالحتك عليه وقد أشرف لك بعضهم نقضا علي وهم مني براء - فنظر خالد إلى رؤوس الحصون وقد اسودت - ولكن إن شئت صنعت شيئا فعزمت على القوم، قال: ما هو؟ قال: تأخذ مني ربع السبي وتدع ربعا، فقال قد فعلت، قال: قد صالحتك2. فلما فرغ فتحت الحصون فإذا ليس فبها إلا النساء والصبيان والشيوخ فقال خالد لمجاعة: ويحك خدعتني. قال: قومي ولم أستطع إلا ما صنعت.