مقدمة المؤلف
أحمد الله على نعمائه الجمة وآلائه التي لا تعد ولا تحصى، وأستغفره من كبائر الذنوب وصغائرها، وأسأله الهداية والتوفيق، وأصلي وأسلم على محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أما بعد فقد كنت شديد الرغبة في تأليف سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم لنشرها على العالم الإسلامي فقضيت الأيام والليالي الطوال في الإطلاع والبحث في السير فجمعت شتاتها وشرحت الغامض منها وحققت الروايات وأثبت تواريخ الوقائع ورددت على الاعتراضات والترهات ردودا مدعمة بالبراهين الساطعة والحجج القاطعة، فجاء الكتاب وافيا بغرضي من حيث إيصال المعلومات الصحيحة إلى العالم الإسلامي. ولما فرغ طبعه، تلقاه الناس بالقبول والاستحسان وأقبلوا على مطالعته بشوق وشغف ونال بحمد الله وفضله رضا العامة والخاصة وتواردت علي رسائل التفريط والتشجيع من الكبراء والعلماء والأدباء حتى عجزت عن شكرهم على ثقتهم بشخصي العاجز الضعيف، وشعرت بقوة تدفعني إلى مواصلة البحث والتأليف بالرغم من كثرة المشاغل الدنيوية. وقد سألني كثير من الأصدقاء الأعزاء أن أتبع سيرة رسول الله بسير الخلفاء بالطريقة نفسها التي انتهجتها، فسرتني فكرتهم ولم يسعني إلا إجابة طلبهم واستخرت الله تعالى أن أكتب سيرة أبي بكر الصديق رضي الله عنه فإنه أول الخلفاء الذين أمرنا رسول الله بالاقتداء بهم والاهتداء بهديهم.
لما توفي النبي صلى الله عليه وسلم ارتجت العرب واختلف المسلمون ولا سيما الأنصار والمهاجرون في الخلافة فتدارك الأمر أبو بكر بحكمته وسرعة بديهته وتمت له البيعة بالإجماع. وقد برهن رضي الله عنه أنه أكفأ رجل وأنه رجل الساعة وقتئذ لأن العرب عندما سمعوا بوفاة رسول الله ارتد كثير منهم واستفحل أمر المرتدين في جزيرة العرب وظهر المتنبئون وجمعوا جيوشهم وثاروا على المسلمين. فمنهم من خرج عن الإسلام ومنهم من منع الزكاة ووضع الصلاة وأباح المحرمات وطرد كثيرا من الولاة، ولولا شدة تمسك أبي بكر بسنة رسول الله وقوة عزيمته وشجاعته لتغلب المرتدون وقضوا على الإسلام قضاء مبرما. ولقد هال أمر المرتدين في بادئ الأمر كبراء الصحابة، ولكن أبا بكر ثبت ولم يتزعزع وظهرت كفايته في إرسال الجيوش واختيار القواد والولاة إلى جميع أنحاء العرب، فكبح جماح المرتدين وهزمهم شر هزيمة واستتب الأمن في البلاد في أقل من سنة. ولم يقتصر على ذلك بل بعث الجيوش إلى العراق والشام فانهزمت الفرس والروم ومن والاهما من العرب وتعدى المسلمون في