فانكر الحج راجعاً، وصعد هو وجماعته إلى أعلى مكان، وعمل المتاريس وجعل الحج في جهة العدو في أسفل التل، وطالع القنبرات، وتهيأ للقتال، ثم مسك كبار الحج عنده، ورتب المدافع والقنبرات واستعد لقتال العسكر الراكب عليه، ولما كانت الناس يوم الجمعة آخر محرم السابق ذكره، ورد بكرة النهار من العساكر ما لا يحصيه إلا الله من ناحية برج الروس، حتى أخبرني من أثق به أنه قال: لي من العمر نحو الثمانين ما رأيت أكثر من هذا العسكر، حتى رحلت أهل القرى منهم.
ثم نزلوا دمشق وملوا المرجة واللوان وتلك النواحي، ورحلوا في الليل تلك الليلة، متوجهين إلى الباشا نواحي قبة الحاج. وقيل إن وراءهم باشات كثيرة.
وكان يقدم دخول العسكر المرقوم، يوسف باشا طبل، وشركس محمد الموجه له دمشق في التاريخ عن ناصيف، مترسماً، ثم رحل العسكر المذكور يوم السبت نزلوا عند القدم. وخيموا هناك، وكان بلغهم يوم الدخول مسكه الحج، فرجعوا في ثاني يوم لملاقات الحج وقتل الباشا، لكن يقدموا رجلاً ويؤخروا أخرى، خوفاً على الحج الشريف، لأنه يخشى الرمي من طرف الباشا والباشاوات الأخر، ومكثوا في القدم يوم الأحد لأن الحج يكون في الوسط.
وكان ناصيف مستعداً بمدافع نحو العشرين، وأيام الحج يصحبها معه على الجمال، واصطنعها غريبة الشكل، طويلة رفيعة، ومعه من القنبرات شيء كثير واستعداد تام، وكان شجاعاً لا يعد الرجال، يهجم على الألف وحده، ويغير زيه، ويأمر العسكر بالتأخر عنه حال كونه في الأربعين، وكان بارعاً في تدبير القتال وحيل الحرب. فأول ما بدأ به بالشام يوم دخوله أنه دخل مدرعاً مغرقاً بآلة الحرب، وكان لبس الدرع من حرستا ولبس البيضة على رأسه، والبيضة عليها كرخور أحمر لا يظهر وجهه لأحد من كثرة توشحه بالدراوي، وتقدم. ولفرسه، بركسات. خوفاً من وهدة فيقع فيتمكن منه العدو.
وكان بلغه عن دمشق، بأن بها زرباً للتركمان الحقلجية. ثم مكث أربعة أشهر لا يحرك ساكناً، لما أن دولة الشام والتركمان، لما لاقوا له جمعوا عسكراً كثيفاً فوقع في الوهم، فرأى أن معاداتهم لا تخلص له، ولا خلاص إلا بالحيلة.
وكان لهم قوة باذخة، وكانوا أرسلوا لكليب بالجيء، فجاء ونزل دار قاسم آغا لصيق باب الله، عند الزيتون، وشكوا له أمر الباشا وأنهم خايفون من غدره، فقال لهم: أضع رمحي في سراياه، ومكث عند قاسم آغا باش زربا وكبيرهم، ثلاثة أيام، ولكن خفيةً، وربطوا معه على الباشا، وبلغ كل ذلك للباشا، فصبر عليهم إلى أن حج ورجع، فلما وصل لمرحلة المزيريب جاء كليب إلى عنده ليسلم، وذلك بالخيمة التي نصبت بعيداً عن الحج لأجل اجتماع الباشا بشيخ البلاد الحورانية، لأن شيخ البلاد لا يركن أن يدخل خيام الدولة خوفاً من الغدر به.
وكان محمد بن كليب مع الباشا في الحج فكان يكرمه غاية الإكرام، وأعطاه من الذهب شيء كثير قدمه لأبيه، فاطمأن في ذلك ولم يعلم بما مكتوب عليه في تقدير الله. فلما صافحه للسلام عليه، وكان العرب واقفين بعيدين عنه وعن الخيمة؛ بمقدار بعيد، نحو رمية سهم، فضربه بخنجر كان معه أرماه، ثم احتز رأسه الجوخدار، ثم ضرب بارودةً يعلم بالأمر العسكر، وأن كليب قتل، فهرعوا إلى عند الباشا، فهربت العرب هرباً فاحشاً وأبقوا بيوتهم ونجعهم، لا يلوون على شيء.
ثم إن الباشا حل من فوره خوفاً من أن يشتغل العسكر بالنهب فينهب الحج ويؤخذ. ثم لما وصل ثاني يوم أرسل للزربا عسكراً، فقام ابن الدرزي قاسم وخرج من داره على حصان ولم يبال بأحد، ثم تتابع الزربا خلفه ولم يخافوا من العسكر الوارد، وخلصوا وتركوا بيوتهم، فلما فاتوا أخذوا في النهب، وكان مع عسكر الباشا من الزربا، عمر شيخ الأتمزلي، وكان من أعيانهم، لكنه خرج عنهم ورتب ما وقع، وقال له أنا أكفيك أمرهم، وهرب ابن المهيني وكان عمل قصراً عالياً، عالي جداً، فأمر الباشا بهدمه وهدم داره وضبط موجوده وهدم أكثر بيوت الزربا، ثم حبس كبار الحقلجية وخرجوا على مال، ولم يعلم عنهم شيء وتركهم.
ثم بعد مدة تراجعوا وأرسل طيب خاطرهم فدخلوا للسرايا وألبسهم وأحسن إليهم وتركهم من خاطره.