وفي الصحيحين حديث: «إن الإيمان ليأرز إلى المدينة كما تأرز الحية إلى جحرها» ويأرز كمسجد أي: ينقبض ويجتمع وينضم ويلتجئ، وقد رأينا كل مؤمن له من نفسه سائق إلى المدينة لحبه في النبي صلّى الله عليه وسلّم فيشمل ذلك جميع الأزمنة؛ لأنه في زمنه صلّى الله عليه وسلّم للتعلم منه، وفي زمن الصحابة والتابعين للاقتداء بهم، ومن بعد ذلك لزيارته، وفضل بلده، والتبرك بمشاهدة آثاره، والاتباع له في سكناها.
وروينا في فضائل المدينة للجندي حديث: «يوشك الإيمان أن يأرز إلى المدينة كما تأرز الحية إلى جحرها» يعني: يرجع إليها الإيمان.
وأسند ابن زبالة حديث: «لا تقوم الساعة حتى يحاز الإيمان إلى المدينة كما يحوز السيل الدّمن» .
وقد تقدم في الأسماء حديث الصحيحين: «أمرت بقرية تأكل القرى، يقولون يثرب وهي المدينة» قال ابن المنذر: يحتمل أن يكون المراد بأكلها القرى غلبة فضلها على فضل غيرها؛ فمعناه أن الفضائل تضمحل في جنب عظيم فضلها حتى تكاد تكون عدما، وهذا أبلغ من تسمية مكة «أم القرى» ؛ لأن الأمومة لا تنمحي معها ما هي له أم، لكن يكون لها حق الأمومة، انتهى.
وجزم القاضي عبد الوهاب بهذا الاحتمال.
وروى البزار عن علي رضي الله عنه حديث: «إن الشياطين قد يئست أن تعبد ببلدي هذا» يعني: المدينة «وبجزيرة العرب، ولكن التحريش بينهم» وله أصل في صحيح مسلم من حديث جابر.
وروى أبو يعلى بسند فيه من اختلف في توثيقه وبقية رجاله ثقات عن العباس رضي الله عنه قال: خرجت مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من المدينة فالتفت إليها وقال: «إن الله قد برأ هذه الجزيرة من الشرك» وفي رواية: «إن الله قد طهّر هذه القرية من الشرك، إن لم تضلّهم النجوم، قال: ينزل الله الغيث، فيقولون: مطرنا بنوء (?) كذا وكذا» وقد تقدم في الأسماء تسميتها بالمؤمنة والمسلمة، وأنه لا مانع من إجرائه على ظاهره فهو مقتض للتفضيل، سيما وسببه ما سبق من كونه صلّى الله عليه وسلّم خلق من تربتها.
وقد استدل أبو بكر الأبهري من المالكية على تفضيلها على مكة بما سبقت الإشارة إليه من أن النبي صلّى الله عليه وسلّم مخلوق من تراب المدينة، وهو أفضل البشر، فكانت تربته أفضل الترب. قال الحافظ ابن حجر: وكون تربته أفضل الترب لا نزاع فيه، وإنما النزاع هل يلزم من ذلك أن تكون المدينة أفضل من مكة؟ لأن المجاور للشيء لو ثبت له جميع مزاياه