عداها، مع أن دعاءه صلّى الله عليه وسلّم للمدينة بضعفي ما بمكة من البركة، ومع البركة بركتين شامل للأمور الدينية والدنيوية، وقد يبارك في العدد القليل فيربو نفعه على الكثير، ولهذا استدل به على تفضيل المدينة لأكثرية المدعو به لها من البركة الشاملة.
ولا يرد على ما قررناه ما جاء في فضل الكعبة الشريفة؛ إذ الكلام فيما عداها، ولهذا روى مالك في الموطأ أن عمر رضي الله عنه قال لعبد الله بن عياش المخزومي: أنت القائل لمكة خير من المدينة؟ فقال عبد الله: هي حرم الله وأمنه، وفيها بيته، فقال عمر:
لا أقول في حرم الله ولا في بيت الله شيئا، ثم قال عمر: أنت القائل لمكة خير من المدينة؟ فقال عبد الله: هي حرم الله وأمنه، وفيها بيته، فقال عمر: لا أقول في حرم الله ولا في بيت الله شيئا، ثم انصرف، وفي رواية لرزين: فاشتد على ابن عياش، فانصرف.
ولا يرد أيضا ما بمكة من مواضع النسك؛ لتعلق النسك بالكعبة، وأيضا فقد عوّض الله المدينة عن العمرة ما سيأتي في مسجد قباء، وعن الحج ما سيأتي مرفوعا:
«من خرج لا يريد إلا الصلاة في مسجدي حتى يصلي فيه كان بمنزلة حجة» ، وهذا أعظم؛ لكونه أيسر، ويتكرر في اليوم والليلة مرارا، والحج لا يتكرر، ويؤخذ منه أنه يضاف إلى ما جاء في المضاعفة بمسجدها الحجة لمن أخلص قصده للصلاة.
ولا يرد أيضا كونه صلّى الله عليه وسلّم أقام بمكة بعد النبوة أكثر من إقامته بالمدينة، على الخلاف فيه؛ لأن إقامته بالمدينة كان سببا في إعزاز دين الله وإظهاره، وبها تقررت الشرائع، وفرضت غالب الفرائض، وأكمل الله الدين، واستقر بها صلّى الله عليه وسلّم إلى قيام الساعة.
وقد ثبت في محبته صلّى الله عليه وسلّم للمدينة ما لم يثبت مثله لمكة، وحثّ على الإقامة والموت بها، والصبر على لأوائها وشدتها، كما ستقف عليه، وسيأتي حديث: «اللهم لا تجعل منايانا بمكة» وحديث: «ما على الأرض بقعة أحب إلي من أن يكون قبري بها منها» يعني المدينة، قالها ثلاث مرات.
وقد شرع الله لنا أن نحب ما كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يحبه، وأن نعظم ما كان يعظمه، وإذا ثبت تفضيل الموت بالمدينة ثبت تفضيل سكناها، لأنه طريقه هذا، وقد روى الطبراني في الكبير والمفضل الجندي في فضائل المدينة وغيرهما عن رافع بن خديج رضي الله عنه قال: أشهد سمعت- وفي رواية «لسمعت» - رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «المدينة خير من مكة» ، وفي إسناده محمد بن عبد الرحمن الرداد، وقد ذكره ابن حبان في الثقات، وقال:
كان يخطئ، وقال أبو حاتم: ليس بقوي، وقال أبو زرعة: ليّن، وقال الأزدي: لا يكتب حديثه، وقال ابن عدي: روايته ليست محفوظة، ولهذا قال ابن عبد البر: هو حديث ضعيف، وفيما قدمناه غنية عنه.