وأقبل الناس ينتابون المسجد، فانحدرنا من تلك العلية التي يسمونها "الدكة" وجلسنا ننتظر الصلاة. وكانت المساجد في ذلك العهد تضاء بقناديل الزيت، في كل قنديل ذبالة يرتعش النور فيها خافتًا ضئيلًا يبص بصيصًا كأنه بعض معاني الضوء لا الضوء نفسه؛ فكانت هذه القناديل والظلام يرتج حولها، تلوح كأنها شقوق مضيئة في الجو، فلا تكشف الليل ولكن تكشف أسراره الجميلة، وتبدو في الظلمة كأنها تفسير ضعيف لمعنى غامض يومئ إليه ولا يبينه، فما تشعر النفس إلا أن العين تمتد في ضوئها من المنظور إلى غير المنظور كأنها سر يشف عن سر.
وكان لها منظر كمنظر النجوم يتم جمال الليل بإلقائه الشعل في أطرافه العليا وإلباس الظلام زينته النوارنية؛ فكان الجالس في المسجد وقت السحر يشعر بالحياة كأنها مخبوءة، ويحس في المكان بقايا أحلام، ويسري حوله ذلك المجهور الذي سيخرج منه الغد؛ وفي هذا الظلام النوراني تنكشف له أعماقه منسكبًا فيها روح المسجد، فتعتريه حالة روحانية يستكين فيها للقدر هادئًا وادعًا راجعًا إلى نفسه، مجتمعًا في حواسه، منفردًا بصفاته، منعكسًا عليه نور قلبه؛ كأنه خرج من سلطان ما يضيء عليه النهار، أو كأن الظلمة قد طمست فيه على ألوان الأرض.
ثم يشعر بالفجر في ذلك الغبش عند اختلاط آخر الظلام بأول الضوء، شعورًا نديًّا كأن الملائكة قد هبطت تحمل سحابة رقيقة تمسح بها على قلبه؛ ليتنضر من يبس، ويرق من غلظة، وكأنما جاؤوه مع الفجر؛ ليتناول النهار من أيديهم مبدوءًا بالرحمة مفتتحًا بالجمال؛ فإذا كان شاعر النفس التقى فيه النور السماوي بالنور الإنساني فإذا هو يتلألأ في روحه تحت الفجر.
لا أنسى أبدًا تلك الساعة ونحن في جو المسجد، والقناديل معلقة كالنجوم في مناطها من الفلك، وتلك السرج ترتعش فيها ارتعاش خواطر الحب، والناس جالسون عليهم وقار أرواحهم، ومن حول كل إنسان هدوء قلبه وقد استبهمت الأشياء في نظر العين ليلبسها الإحساس الروحاني في النفس، فيكون لكل شيء معناه الذي هو منه ومعناه الذي ليس منه، فيخلق فيه الجمال الشعري كما يخلق للنظر المتخيل.
لا أنسى أبدًا تلك الساعة. وقد انبعث في جو المسجد صوت غرد رخيم يشق سدفة الليل في مثل رنين الجرس تحت الأفق العالي وهو يرتل هذه الآيات من آخر سورة النحل: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ