كنت في العاشرة من سني وقد جمعت القرآن كله حفظًا وجودة بأحكام القراءة؛ ونحن يومئذ في مدينة "دمنهور" عاصمة البحيرة؛ وكان أبي -رحمه الله- كبير القضاة الشرعيين في هذا الإقليم، ومن عادته أنه كان يعتكف كل سنة في أحد المساجد عشرة الأيام الأخيرة من شهر رمضان، يدخل المسجد فلا يبرحه إلا ليلة عيد الفطر بعد انقضاء الصوم؛ فهناك يتأمل ويتعبد ويتصل بمعناه الحق، وينظر إلى الزائل بمعنى الخالد، ويطل على الدنيا إطلال الواقف على الأيام السائرة ويغير الحياة في عمله وفكره، ويهجر تراب الأرض فلا يمشي عليه، وتراب المعاني الأرضية فلا يتعرض له، ويدخل في الزمن المتحرر من أكثر قيود النفس، ويستقر في المكان المملوء للجميع بفكرة واحدة لا تتغير؛ ثم لا يرى من الناس إلا هذا النوع المرطب الروح بالوضوء، المدعوّ إلى دخول المسجد بدعوة القوة السامية، المنحني في ركوعه؛ ليخضع لغير المعاني الذليلة، الساجد بين يدي ربه؛ ليدرك معنى الجلال الأعظم.
وما هي حكمة هذه الأمكنة التي تقام لعبادة الله؟ إنها أمكنة قائمة في الحياة، تشعر القلب البشري في نزاع الدنيا أنه في إنسان لا في بهيمة ...
وذهبت ليلة فبتُّ عند أبي في المسجد؛ فلما كنا في جوف الليل الأخير أيقظني للسحور، ثم أمرني فتوضأت لصلاة الفجر وأقبل هو على قراءته؛ فلما كان السحر الأعلى هتف بالدعاء المأثور: اللهم لك الحمد؛ أنت نور السموات والأرض، ولك الحمد؛ أنت بهاء السموات والأرض، ولك الحمد؛ أنت زين السموات والأرض، ولك الحمد؛ أنت قيّام السموات والأرض ومن فيهن ومن عليهن؛ أنت الحق ومنك الحق ... إلى آخر الدعاء.