بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللَّهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} .
وكان هذا القارئ يملك صوته أتم ما يملك ذو الصوت المطرب؛ فكان يتصرف به أحلى مما يتصرف القمري وهو ينوح في أنغامه، وبلغ في التطريب كل مبلغ يقدر عليه القادر، حتى لا تفسر اللذة الموسيقية بأبدع مما فسرها هذا الصوت؛ وما كان إلا كالبلبل هزته الطبيعة بأسلوبها في جمال القمر، فاهتز يجاوبها بأسلوبه في جمال التغريد.
كان صوته على ترتيب عجيب في نغماته، يجمع بين قوة الرقة وبين رقة القوة، ويضطرب اضطرابًا روحانيًا كالحزن اعتراه الفرح على فجأة؛ يصيح الصيحة تترجح في الجو وفي النفس، وتتردد في المكان وفي القلب، ويتحول بها الكلام الإلهي إلى شيء حقيقي، يلمس الروح فيرفضّ عليها بمثل الندى، فإذا هي ترف رفيفًا، وإذا هي كالزهرة التي مسحها الطل.
وسمعنا القرآن غضًا طريًا كأول ما نزل به الوحي، فكان هذا الصوت الجميل يدور في النفس كأنه بعض السر الذي يدور في نظام العالم، وكان القلب وهو يتلقى الآيات كقلب الشجرة يتناول الماء ويكسوها منه.
واهتز المكان والزمان كأنما تجلى المتكلم سبحانه وتعالى في كلامه، وبدا الفجر كأنه واقف يستأذن الله أن يضيء من هذا النور!
وكنا نسمع قرآن الفجر وكأنما محيت الدنيا التي في الخارج من المسجد وبطل باطلها، فلم يبق على الأرض إلا الإنسانية الطاهرة ومكان العبادة؛ وهذه هي معجزة الروح متى كان الإنسان في لذة روحه مرتفعًا على طبيعته الأرضية.
أما الطفل الذي كان فيَّ يومَئذ فكأنما دعي بكل ذلك؛ ليحمل هذه الرسالة ويؤديها إلى الرجل الذي يجيء فيه من بعد؛ فأنا في كل حالة أخضع لهذا الصوت: ادع إلى سبيل ربك؛ وأنا في كل ضائقة أخشع لهذا الصوت: واصبر وما صبرك إلا بالله!