وحي القلم (صفحة 654)

عليه الصلاة والسلام لهذه المحال كالواصفة لما خلفها، والمخبرة عما استتر بها؛ وهذه من أحسن العبارات عن هذا المعنى، ولهذا الغرض رمى عمر بن الخطاب في قوله: "إياكم ولبس القباطي" فإنها إلا تشف تصف". فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا عذرة هذا المعنى، ومن تبعه فإنما سلك فجه.

قلنا: وهذا كلام حسن، ولكن في عبارة الحديث سرًا هو من معجزات البلاغة النبوية لم يهتد إليه الشريف، على أنه هو حقيقة الفن في هذه الكلمة بخاصتها، ولا نظن أن بليغًا من بلغاء العالم يتأتى لمثله، فإنه عليه الصلاة والسلام لم يقل: أخاف أن تصف حجم أعضائها، بل قال: "حجم عظامها"، مع أن المراد لحم الأعضاء في حجمه وتكوينه، وذلك منتهى السمو بالأدب، إذ ذكر "أعضاء" المراة في هذا السياق، وبهذا المعرض، هو في الأدب الكامل أشبه بالرفث، ولفظة "الأعضاء" تحت الثوب الرقيق الأبيض تنبه إلى صور ذهنية كثيرة هي التي عدها الرضي في شرحه، وهي تومئ إلى صورة أخرى من ورائها، فتنزه النبي صلى الله عليه وسلم عن كل ذلك، وضرب الحجاب اللغوي على هذه المعاني السافرة ... وجاء بكلمة "العظام"؛ لأنها اللفظة الطبيعية المبرأة من كل نزغة، لا تقبل أن تلتوي، ولا تثير معنى، ولا تحمل غرضًا؛ إذ تكون في الحي والميت، بل هي بهذا أخص؛ وفي الجميل والقبيح، بل هي هنا أليق؛ وفي الشباب والهرم، بل هي في هذا أوضح.

والأعضاء لا تقوم إلا بالعظام فالمجاز على ما ترى، والحقيقة هي ما علمت.

ومن كلماته في الوصف الطبيعي قوله صلى الله عليه وسلم وهو يذكر أوقات الصلاة: "العصر إذا كان ظل كل شيء مثله، وكذلك ما دامت الشمس حية، والعشاء إذا غاب الشفق إلى أن تمضي كواهل الليل"، وكواهل الليل: أوائله وفروعه المتقدمة منه، كالذي يتقدم المطايا من أعناقها الممتدة بعض الامتداد؛ وقوله وقد سأله رجل متى يصلي العشاء الآخرة، فقال عليه الصلاة والسلام: "إذا ملأ الليل بطن كل وادٍ"؛ وقوله: "إذا طلع حاجب الشمس فأخروا الصلاة حتى ترتفع"، وقوله: "إن رجلًا من أهل الجنة استأذن ربه في الزرع، فقال له: ألست فيما شئت؟ قال: بلى ولكني أحب أن أزرع. قال: فبذر فبادر الطرف نباته واستواؤه واستحصاده فكان أمثال الجبال". وقوله: "بينا رجل يمشي فاشتد عليه العطش، فنزل بئرًا، فشرب منها ثم خرج، فإذا بكلب يلهث يأكل الثرى من العطش، فقال: لقد بلغ هذا مثل الذي بلغ بي! فملأ خفه ثم أمسكه بفيه، ثم رقى فسقى الكلب فشكر الله له، فغفر له"، قالوا: يا رسول الله، وإن لنا في البهائم أجرًا؟ قال: "في كل كبد رطبة أجر".

طور بواسطة نورين ميديا © 2015