فهذا ونحوه من الفن البديع النادر، وهو مع ذلك لا يأتي في كلامه صلى الله عليه وسلم إلا في مثل ما رأيت، فلا يراد منه استجلاب العبارة، ولا صناعة الخيال، فيظن من لا يميز ولا يحقق أن خلو البلاغة النبوية من فن وصف الطبيعة والجمال والحب، دليل على ما ينكره أو يستجفيه، ويقول: بداوة وسذاجة ونحو ذلك مما تشبهه الغفلة على جهلة المستشرقين ومن في حكمهم من ضعاف أدبائنا وجهلة كتابنا، وإنما انتفى ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم لانتفاء الشعر عنه وكونه لا ينبغي له كما بسطناه في موضعه1؛ فعمله أن يهدي الإنسانية لا أن يزين لها، وأن يدلها على ما يجب في العمل، لا ما يحسن في صناعة الكلام، وأن يهديها إلى ما تفعله لتسمو به، لا إلى ما تتخيله لتلهو به. والخيال هو الشيء الحقيقي عند النفس في ساعة الانفعال والتأثر به فقط، ومعنى هذا أنه لا يكون أبدًا حقيقة ثابتة، فلا يكون إلا كذبًا على الحقيقة.
ثم هو صلى الله عليه وسلم ليس كغيره من بلغاء الناس: يتصل بالطبيعة ليستملي منها؛ بل هو نبي مرسل متصل بمصدرها الأزلي ليملي فيها، وقد كانت آخر ابتسامة له في الدنيا ابتسامات للصلاة2 يتهلل لطهارة النفس المؤمنة وجمالها قائمة بين يدي خالقها، منسكبًا في طهارتها روح النور، وكل إنسان إنما يبدو الكون في عينه على ما يرى مما يشبه ما في نفسه، فكل ما رآه المصلي الخاشع في صلاته3 يبدو له كأنه يصلي في ضرب من العبادة على نحو من الدين، وكل ما رآه السكران في سكره يكاد يراه متخبطًا يعربد ما يتماسك!
ثم إن الكلام في وصف الطبيعة والجمال والحب على طريقة الأساليب البيانية، إنما هو باب من الأحلام؛ إذ لا بد فيه من عيني شاعر، أو نظرة عاشق؛ وهنا نبي يوحى إليه، فلا موضع للخيال في أمره، إلا ما كان تمثيلًا يراد به تقوية الشعور الإنساني بحقيقة ما في بعض ما يعرض من باب الإرشاد والموعظة، كما