الوحي، فله موضع إن شاء الله في كتابنا "أسرار الإعجاز"1، وإنما نريد أن ندلَّ على أن هذه التهيئة الإلهية لذلك الجهاز العصبي لها أثرها العظيم في فن بلاغته صلى الله عليه وسلم، وبها امتاز عن كل بلغاء الدنيا؛ فإن الملهم من أفذاذ العبقريين على هذه الأرض إنما يبلغ ما يبلغه ببعض هذا الذي رأيت، وفي بعض هذا أبدع ما ورثت الدنيا من فنون البيان، وكأن في الدماغ مادة في موضع منه يميز بها من تختارهم السماء لحكمتها وإلهامها، وإذا كان فن العبقريين هو أسمى الكلام الإنساني؛ لما خصوا به من هذه التهيئة، فإن فنه صلى الله عليه وسلم يكون ولا جرم من باب الأكبر مما هو أكبر في إلهام الإنسانية كلها.
ولهذه القوة النادرة كان بيانه قويًا على مزج معانيه بالنفس بما فيه من صنعة الحياة، وإنما فلسفة البيان الفني أن تمتد الحياة من النفس إلى اللفظ، فتصنع فيه صنعها، فتفصل العبارة الفنية عن كاتبها أو قائلها وهي قطعة من كلامه؛ لتستحيل عند قارئها أو سامعها قطعة من الحياة في صورة من صور الإدراك؛ فالبيان الفني هو الوسيلة لحمل الوجود وبعثرته في مواضع غير مواضعه، وخلقه خلقًا آخر في النفس الإنسانية؛ وبذلك يؤول قوله صلى الله عليه وسلم: "إن من البيان لسحرًا". جعل نوعًا من البيان هو السحر، لا البيان كله، فالحديث كالنص على ما تسميه الفلسفة الأوروبية اليوم "بالبيان الفني"، كأنه قال: إن من البيان فنًا هو سحر من عمل النفس في اللغة تغير به الأشياء، وله عجب السحر وتأثيره وتصرفه؛ وهذا معنى لم يتنبه إليه أحد، ولا يذكر معه كل ما قالوه في تفسير الحديث، وبذلك التأويل يكون هذا الحديث قد احتوى أسمى حقيقة فلسفية للفن.
ومن أثر تلك القوة أيضًا ما تراه من شدة الوضوح في كلامه صلى الله عليه وسلم، ولقد رأينا هذه البلاغة النبوية العجيبة قائمة على أن كل لفظ هو لفظ الحقيقة لا لفظ اللغة، فالعناية فيها بالحقائق، ثم الحقائق هي تختار ألفاظها اللغوية على منازلها؛ وبذلك يأتي الكلام كأنه نطق للحقيقة المعبر عنها، والكلمة الصادقة تنطق مرة واحدة؛ فصورتها اللغوية لا تكون إلا صريحة منكشفة عن معناها المضيء كأنما ألقي فيها النور.
وهو معلوم أنه صلى الله عليه وسلم لا يتكلف ولا يتعمل، ولم يكتب ولم يؤلف، ومع هذا لا تجد في بلاغته موضعًا يقبل التنقيح، أو تعرف له رقة من الشأن كأنما بين الألفاظ ومعانيها في كل بلاغته مقياس وميزان، أو كأن هذه البلاغة تنبثق بالكلام