ولحمه. وظاهر التمثيل على ما رأيت من العجب، ولكن له باطنًا أعجب من ظاهره، وهو البلاغة كل البلاغة والبيان حق البيان، فإنما يريد صلى الله عليه وسلم أن الحديد لا يأكل ولا يمزع من أولئك الأقوياء بإيمانهم عظمًا ولحمًا وعصبًا، بل هو حديد يأكل حديدًا مثله أو أشد منه، فإن للروح المؤمنة السلطة على جسمها قوة تصنع هذه المعجزة، فيمر الحديد في العظم واللحم والعصب يسلبها الحياة، ولكنها تسلبه شدته وجلده وصبره!
وكل ما جاء من التمثيل في كلامه صلى الله عليه وسلم ينطوي فيه من إبداع الفن البياني وإعجازه ما يفوت حدود البلغاء، حتى لا تشك إذا أنت تدبرته بحقه من النظر والعلم أن بلاغته إنما هي شيء كبلاغة الحياة في الحي: هي البلاغة ولكنها أبدع مما هي؛ لأنها الحياة أيضًا.
وأنت خبير أن هذا النبي الكريم صلى الله عليه وسلم كانت تأخذه عند نزول الوحي عليه أحوال وصفت في كتب الحديث: قالت عائشة -رضي الله عنها-: ولقد رأيته ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد فيفصم عنه وإن جبينه ليتفصد عرقًا. وفي حديث آخر عنها قالت: فأخذه ما كان يأخذه من البرحاء حتى أنه ليتحدر عنه مثل الجمان من العرق في يوم شاتٍ. وفي حديث زيد بن ثابت: فأنزل الله -عز وجل- على رسوله صلى الله عليه وسلم، وفخذه على فخذي، فثقلت علي حتى خفت أن ترضَّ فخذي. وفي حديث يعلى بن أمية حين قال لعمر: أرني النبي صلى الله عليه وسلم حين يوحي إليه، فأشار عمر إلي، فجئت وعلى رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم ثوب قد أظل به فأدخلت رأسي، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم محمر الوجه وهو يغطّ، أي يردد نفسه من شدة ثقل الوحي. فهذه كلها أحوال تصف عمل الدماغ بكل ما فيه من جهد القوى العصبية؛ ليرتفع بالحياة إلى ما فوقها ويتركها لوعي الروح وحدها، لا يشاركها في هذا الوعي فكر ولا هاجس، ولا يتصل به شيء من حياة الحي، فيتحقق للنبي صلى الله عليه وسلم وجود آخر غير وجوده المحدود بجسمه وطباعه ودنياه؛ ويخرج بوعيه من هذه الجاذبية الأرضية إلى ما وراء حدود الطبيعة من قوى الغيب؛ وبذلك يتلقى عن روح الكون، ثم يفصم عنه وقد وعى ما أوحي إليه. وما وصفه زيد بن ثابت من أن فخذه كادت ترضّ برهان قاطع على أن روحه صلى الله عليه وسلم تنسرح من جسمه ساعة الوحي فيثقل الجسم؛ لأنه إنما يخف بالروح وتبقى وظائف الحياة عاملة أعمالها بعسر وبطء؛ لاتصالها بشعاع من الروح دون الروح بجملتها؛ ولسنا هنا بصدد الكلام عن