فإذا نظرت في هذا الفن فانظره في حديثه، وفي عمله، وفي الدنيا التي ألفها من التاريخ تأليف القطعة البليغة النادرة من الكلام، ورد كل ما تدبرته من ذلك إلى تلك الروح الجديدة على تاريخ الأرض؛ فلتعلمن حينئذ أن كل بليغ هو شمعة مضيئة صنعت لها مادة النور نورًا وجمالًا بجانب هذه الشمس التي خلقت فيها مادة النور نورًا وجمالًا وحياة وقوة؛ هناك نور لذي عينين، وهنا النور لكل ذي عينين، وذاك يتخايل كالحلم، وهذا يفصح كالحقيقة، وذلك ضوء من حوله الظلمة دانية، وهذا قد طرد الظلمة عن نصف الدنيا إلى نصف الدنيا؛ والأول نور بلا روح، والثاني هو روح النور.
تلك في رأينا هي الطريقة التي كان يفهمه بها أصحابه صلى الله عليه وسلم، كما يفهم الشاعر نور القمر في ليلة صيف بمعان من الزمان والمكان، ومن النفس والحالة، ومن الهيئة والشكل، ومن العين والفكر، ومن السماء والأرض، ففيه النور وزيادة، أي الحقيقة وما ترتفع بها على نفسها؛ وبهذه الطريقة كانوا معه كأعظم فلاسفة الفن مع الفن إعجابًا وحبًا وانقيادًا وطاعة حتى انخلعوا من عصرهم ودنياهم، وخرجوا من أحوالهم وطبائعهم، وانجذبوا إليه أشد انجذاب عرفه التاريخ، وأصبحوا مصرفين معه تصريف الحوادث لا تصريف الأشخاص، وعادت أنفسهم وكأن تأثير الأرض يلتقي فيها بتأثير السماء فيغسل في سحب عالية فلا يكون فيها كما يريده الناس، بل كما يريد الله؛ ورجعت قلوبهم لا تلبس على دينها رأيًا ولا هوى، وكأنما وضع لها هذا الدين حرسًا على كل سمع وعلى كل بصر؛ وبالجملة فأولئك قوم كأنما تناولهم النبي صلى الله عليه وسلم فأفرغهم ثم ملأهم، وما انتقلوا إلى منزلهم العالية في التاريخ إلا بعد أن نقلهم هو إلى منزلة من منازل نفسه الشريفة.
وناهيك من رجال يمثل لهم بهذا المثل الذي يضربه لهم في الإيمان ليبلغوه أو يقاربوه، فعن خباب بن الأرت -رضي الله عنه- قال: شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة، قلنا: ألا تستنصر لنا؟ ألا تدعو الله لنا؟ قال: "كان الرجل فيمن قبلكم يحفر له في الأرض فيجعل فيه فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه فيشق باثنين وما يصده ذلك عن دينه، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه من عظم أو عصب وما يصده ذلك عن دينه! "
فانظر يا هذا، فإنه لو اجتمعت قوى الكون فجاءت يشد بعضها بعضًا فنزلت في عبارة من الكلام لتملأ نفوس المؤمنين بقوتها لما وضعت إلا هذا الوضع من هذا التمثيل بأمشاط المسامير وأسنان المنشار في عظم الإنسان الحي