ولكن بقيت أشياء لا بد من التدقيق في فحصها، فليس هذا من مجانين العبقرية التي انحرفت عن طريقها أو شذت في قوتها؛ ولا هو ممن يتجان ويتحامق التماسا للرزق والعيش كما قال بعضهم: حماقة تعولني خير من عقل أعوله.
فقال المجنون: "مما حفظناه" حماقة تعولني ...
فضحك "النابغة" وقال: هو كما بينت لكم مصاب بجنون "مما حفظناه" وهو أقل الجنون وأهونه، وعلاجه البسط والسرور والقرش، والضرب أحيانا ... فإذا ثابر عليه الداء تحول إلى جنون "مما ضربناه" ... فيعتدي المصاب على كل من يراه أو يوقع به ضربا، وعلاجه حينئذ القميص المرقوم1؛ فإذا فدحت العلة انقلب المرض إلى جنون "مما قتلناه". وعلاجه يومئذ السلاسل والأغلال.
والحق أقول لكم إن آخر ما انتهت إليه فلسفة الطب في القرن العشرين أن الناس جميعا مجانين ولكن بعضهم أوفر قسطا من بعض. كأن سلب العقل هو أيضا حظوظ كحظوظ موهبة العقل. وأهل المريخ من أجل ذلك يسمون الأرض بيمارستان الفلك.
ولكن بقيت أشياء لا بد من التدقيق في فحصها؛ وعندي في الدار عاطوس إذا أشممته هذا المجنون عطس به عطسة قوية فخرج جنونه من أنفه ... قل لي أيها المسكين: أتخاف إذا سرت وحدك في ميدان واسع كأن الميدان سيلتف عليك؟ أتضطرب إذا مشيت في مضيق كأن المكان سينطبق عليك؟ وإذا كنت في عربة القطار فهل يخيل إليك أن البيمارستان قد جره القطار وانطلق به هاربا؟ وهل شعرت مرة أنه أوحي إليك أن تنتحر؟
أرني هذا القرش الذي في يدك. فمد إليه المجنون يده بالقرش.
قال "النابغة": انظر الآن هل تحدثك نفسك أن تغصبني هذا القرش أو تسرقه مني؟ قال: نعم.
قال "النابغة": إذن يجب أن أحرزه في جيبي ... وأسرع فأخفاه في جيبه.
فصاح الآخر وشغب، وقال: سلبني ونهبني. قلنا لا ينبغي أن يتصل بينكما