تجعل الرجل كالماء في سبيل التجمد ... لا يشتعل، فضلا عن أن يستعر، فضلا عن أن يحترق.
ومؤلفة الكتب لا يكون وجهها إلا إحدى وثيقتين: فإما جميلة، فوجهها وثيقة بأن لها ديونا على الرجال؛ وإما غير جميلة، فوجهها "مخالصة" من كل الديون ...
قلنا: هذا في الخائنة. فيكف سرقك اللص ولست غنيا؟
قال: هذه هي نكتة النبوغ؛ وفي النبوغ أشياء لا ينكشف تفسيرها، وليس في جهلها مضرة على أحد، وجهل لا يضر هو علم لا ينفع، لكنه علم. والبحث في بعض أعمال "النابغة" هو كالبحث عن سر الحياة فيه، إذ يعمل أعماله تلك بسر الحياة لا بسر العقل، أي بالعقل النابغ الخاص به وحده لا بالعقل الطبيعي المشترك بين الناس.
قلت: ومن عجائبك أنك لا تقرأ الروايات، ولكنك مع ذلك تؤلفها ...
قال: إن ذلك ليكون، وإن لم أؤلفها أنا تألفت هي لي. فإذا تقدم الليل ونام الناس جميعا انتبهت أنا وحدي لرواية العالم فأرى ما شئت أن أرى. وفي ضوء النهار أجد الناس عقلاء ولكني في ظلمة الليل أبصرهم مجانين. فهذا الليل برهان الطبيعة على جنون الناس وضعف عقولهم إذ هو يثبت حاجة هذه العقول إلى ضرب من النسيان الأبله التام لولاه ما عقلت في نهارها ولا استقام لها أمر.
يصرع الناس في الليل صرعة المجانين يغمضون أعينهم ولا يرون شيئا. أما أنا فأرى العالم في الليل مسرحا هزليا يضج بالضحك من الإنسان الأحمق الذي يقطع سراة نهاره، وهو معتقد أنه قابض على الوجود بالأعين والآذان والأناف ... أئن رأيت الأسد بعينك أيها الأحمق وسمعت في أذنيك زئيره، ادعيت الدعوى العريضة، وزعمت أنك ملكته وقبضت عليه، ولا تدري في هذا أنك كالمعتوه إذا قبض على الظل بيده، وصاح هاتوا الحبل لأقيده لا يفلت.
قلت: فإذا كان العالم كله روايتك فأخرج لنا فصلا من الرواية.
قال: أيما أحب إليكم، أن أكتب أو أمثل؟
قلنا: بل التمثيل أحب إلينا. فنظر إلى المجنون الآخر وقال: وإن المجنون في طبيعته ينبوع من الأشخاص يفيض حالا بعد حال، كينبوع الماء يسح الدفعة