وحي القلم (صفحة 325)

لهذا سمع المسلمون الأولون كلام الله -تعالى- في كتابه، وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، لا كما يسمعون القول، ولكن كما يتلقون الحكم النافذ المقضي؛ ولم يجدوا فيه البلاغة وحدها، بل روعة أمر السماء في بلاغة؛ واتصلوا بنبيهم، ثم بعضهم ببعض، لا كما يتصل إنسان بإنسان، بل كما تتصل الأمواج بقوة المد، ثم كما يمد بعضها بعضا في قوة واحدة.

وحققوا في كماله صلى الله عليه وسلم وجودهم النفسي؛ فكانوا من زخارف الحياة وباطلها في موضع الحقيقة الذي يرى فيه الشيء لا شيء.

ورأوا في أرادته صلى الله عليه وسلم النقطة الثابتة فيما يتضارب من خيالات النفس؛ فكانوا أكبر علماء الأخلاق على الأرض، لا من كتب ولا علم ولا فلسفة، بل من قلب نبيهم وحده.

وعرفوا به صلى الله عليه وسلم تمام الرجولة؛ ومتى تمت هذه الرجولة تمامها في إنسان رجعت له الطفولة في روحه، وامتلك تلك الطبيعة التي لا يملكها إلا أعظم الفلاسفة والحكماء فأصبح كأنما يمشي في الحياة إلى الجنة بخطوات مسددة لا تزيغ ولا تنحرف، فلا شر ولا رذيلة؛ ودنياه هي الدنيا كلها بشمسها وقمرها، يملكها وإن لم يملك منها شيئا، ما دامت في قلبه طبيعة السرور، فلا فقر ولا غنى مما يشعر الناس بمعانيه، بل كل ما أمكن فهو غنى كامل، إذ لم تعد القوة في المادة تزيد بزيادتها وتنقص بنقصها، بل القوة في الروح التي تتصرف بطبيعة الوجود، وتدفع قوى الجسم بمثل دوافع الطفولة النامية المتغلبة، حتى لتجعل من النور والهواء ما يؤتدم به مع الخبز القفار، كما يؤتدم باللحم وأطايب الأطعمة1.

وبذلك لا تتسلط ضرورة على الجسم -كالجوع والفقر والألم ونحوها- إلا كان تسلطها كأنه أمر من قوة في الوجود إلى قوة في هذا الجسم, أن تظهر لتعمل عملها المعجز في إبطال هذه الضرورة. وهذا الجنس من الناس كالأزهار على

طور بواسطة نورين ميديا © 2015