وحي القلم (صفحة 324)

وبالجلسة في الصلاة وقراءة التحيات الطيبات، يكون المسلم جالسًا فوق الدنيا يحمد الله ويسلم على نبيه وملائكته ويشهد ويدعو.

وبالتسليم الذي يخرج به من الصلاة، يقبل المسلم على الدنيا وأهلها إقبالا جديدًا من جهتي السلام والرحمة.

هي لحظات من الحياة كل يوم في غير أشياء هذه الدنيا؛ لجمع الشهوات وتقييدها بين وقت وآخر بسلاسلها وأغلالها من حركات الصلاة، ولتمزيق الفناء خمس مرات كل يوم عن النفس؛ فيرى المسلم من ورائه حقيقة الخلود، فتشعر الروح أنها تنمو وتتسع.

هي خمس صلوات، وهي كذلك خمس مرات يفرغ فيها القلب مما امتلأ به من الدنيا، فما أدق وأبدع وأصدق قوله صلى الله عليه وسلم: "جعلت قرة عيني في الصلاة" 1.

لم يكن الإسلام في حقيقته إلا إبداعا للصيغة العلمية التي تنتظم الإنسانية فيها؛ ولهذا كانت آدابه كلها خراسا على القلب المؤمن، كأنها ملائكة من المعاني؛ وكان الإسلام بها عملًا إصلاحيًا وقع به التطور في عالم الغريزة، فنقله إلى عالم الخلق، ثم ارتقى بالخلق إلى الحق، ثم سما بالحق إلى الخير العام؛ فهو سمو فوق الحياة بثلاثة طبقات، وتدرج إلى الكمال في ثلاث منازل، وابتعاد عن الأوهام بمسافة ثلاث حقائق.

وبتلك الأعمال والآداب كانت الدنيا المسلمة التي أسسها النبي صلى الله عليه وسلم دنيا أسلمت طبيعتها، فأصبحت على ما أراد المسلمون لا ما أرادت هي؛ وكأنها قائمة بنواميس من أهليها، لا على أهليها؛ وكان الظاهر أن الإسلام يغزو الأمم بالعرب ويفتتحها، ولكن الحقيقة أن إقليما من الدنيا كان يحارب سائر أقاليم الأرض بالطبيعة الأخلاقية الجديدة لهذا الدين.

وكأن الله -تعالى- ألقى في رمال الجزيرة روح البحر، وبعثها بعثة الإلهي لأمره، فكان النبي صلى الله عليه وسلم هو نقطة المد التي يفور البحر منها، وكان المسلمون أمواجه التي غسلت بها الدنيا.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015