وحي القلم (صفحة 312)

إن أساس الدين والكرامة ألا يخرج إنسان عن قاعدة الفضيلة الاجتماعية في حل مشكلته إن تورَّط في مشكلة؛ فمن كان فقيرًا لا يسرق بحجة أنه فقير، بل يكدّ ويعمل ويصبر على ما يعانيه من ذلك؛ ومن كان محبًّا لا يَستزِلّ المرأة فيسقطها بحجة أنه عاشق؛ ومن كان كصاحب المشكلة لا يظلم امرأته فيمقتها بحجة أنه يعشق غيرها؛ وإنما الإنسان من أظهر في كل ذلك ونحو ذلك أثره الإنساني لا أثره الوحشي، واعتبر أموره الخاصة بقاعدة الجماعة لا بقاعدة الفرد. وإنما الدين في السمو على أهواء النفس؛ ولا يتسامى امرؤ على نفسه وأهواء نفسه إلا بإنزالها على حكم القاعدة العامة، فمن هناك يتسامى، ومن هناك يبدو علوه فيما يبلغ إليه.

وإذا حل اللص مشكلته على قاعدته هو فقد حلها، ولكنَّه حل يجعله هو بجملته مشكلة للناس جميعًا، حتى ليرى الشرع في نظرته إلى إنسانية هذا اللص أنه غير حقيق باليد العاملة التي خُلقت له فيأمر بقطعها.

وعلى هذه القاعدة, فالجنس البشري كله ينزل منزلة الأب في مناصرته لزوجة صاحب المشكلة والاستظهار لها والدفاع عنها، ما دام قد وقع عليها الظلم من صاحبها، وهذا هو حكمها في الضمير الإنساني الأكبر، وإن خالف ضمير زوجها العدوّ الثائر الذي قطعها من مصادر نفسه ومواردها. أما حكم الحبيبة في هذا الضمير الإنساني فهو أنها في هذا الموضع ليست حبيبة, ولكنها شَحَّاذة رجال.

لسنا ننكر أن صاحب هذه المشكلة يتألم منها ويتلذع بها من الوَقْدة التي في قلبه؛ بيد أننا نعرف أن ألم العاقل غير ألم المجنون، وحزن الحكيم غير حزن الطائش؛ والقلب الإنساني يكاد يكون آلة مخلوقة مع الإنسان لإصلاح دنياه أو إفسادها؛ فالحكيم من عرف كيف يتصرف بهذا القلب في آلامه وأوجاعه، فلا يصنع من ألمه ألمًا جديدًا يزيده فيه، ولا يُخرِج من الشر شرًّا آخر يجعله أسوأ مما كان. وإذا لم يجد الحكيم ما يشتهي، أو أصاب ما لا يشتهي، استطاع أن يخلق من قلبه خلقًا معنويًّا يُوجده الغنى عن ذلك المحبوب المعدوم، أو يوجده الصبر عن هذا الموجود المكروه؛ فتتوازن الأحوال في نفسه وتعتدل المعاني على فكره وقلبه؛ وبهذا الخلق المعنوي يستطيع ذو الفن أن يجعل آلامه كلها بدائع فن1.

وما هو فكر الحكماء إلا أن يكون مصنعًا تُرسَل إليه المعاني بصورة فيها الفوضى

طور بواسطة نورين ميديا © 2015