إن القرآن لم يقض ثلاثة عشر عاماً كاملة في بناء العقيدة بسبب أنه كان يتنزل للمرة الأولى .. كلا! فلو أراد الله لأنزل هذا القرآن جملة واحدة، ثم ترك أصحابه يدرسونه ثلاثة عشر عاماً، أو أكثر أو أقل، حتى يستوعبوا " النظرية الإسلامية "0
ولكن الله - سبحانه - كان يريد أمراً آخر، كان يريد منهجاً معيناً متفرداً0كان يريد بناء جماعة وبناء حركة وبناء عقيدة في وقت واحد .. كان يريد أن يبني الجماعة والحركة بالعقيدة، وأن يبني العقيدة بالجماعة والحركة .. كان يريد أن تكون العقيدة هي واقع الجماعة الحركي الفعلي، وأن يكون واقع الجماعة الحركي الفعلي هو الصورة المجسمة للعقيدة .. وكان الله - سبحانه - يعلم أن بناء النفوس والجماعات لا يتم بين يوم وليلة، فلم يكن هنالك بد أن يستغرق بناء العقيدة المدى الذي يستغرقه بناء النفوس والجماعة .. حتى إذا نضج التكوين العقيدي كانت الجماعة هي المظهر الواقعي لهذا النضوج.
هذه هي طبيعة هذا الدين - كما تستخلص من منهج القرآن المكي - ولا بد أن نعرف طبيعته هذه، وألا نحاول تغييرها تلبية لرغبات معجلة مهزومة أمام أشكال النظريات البشرية! فهو بهذه الطبيعة صنع الأمة المسلمة أول مرة، وبها يصنع الأمة المسلمة في كل مرة يراد فيها أن يعاد إخراج الأمة المسلمة للوجود كما أخرجها الله أول مرة.
يجب أن ندرك خطأ المحاولة وخطرها معاً، في تحويل العقيدة الإسلامية الحية التي تحب أن تتمثل في واقع نَامٍ حي متحرك، وفي تجمع عضوي حركي .. تحويلها عن طبيعتها هذه إلى " نظرية " للدراسة والمعرفة الثقافية، لمجرد أننا نريد أن نواجه النظريات البشرية الهزيلة بـ " نظرية إسلامية ".
إن العقيدة الإسلامية تحب أن تتمثل في نفوس حية، وفي تنظيم واقعي، وفي تجمع عضوي، وفي حركة تتفاعل مع الجاهلية من حولها، كما تتفاعل مع الجاهلية الراسبة في نفوس أصحابها - بوصفهم كانوا من أهل الجاهلية قبل أن تدخل العقيدة إلى نفوسهم، وتنتزعها من الوسط الجاهلي - وهي في صورتها هذه تشغل من القلوب والعقول