وشيء آخر يلمع لنا من ثنايا الخطبة، التي هي أشبه ما تكون بخطبة تقال في يوم الجمعة قد قيلت في المناسبة رسمية كما يقولون، وكان من المتوقع فيها أن يثنى القوم على الأمير ويذكروا فضله وآلاءه، وينوَّهوا بُيْمن عهده وازدهار أيامه، ولكن يبدو أن الطابع الديني كان غلاباً في ذلك الزمان، والرهبة الدينية كانت لا تزال في قوتها وسلطانها، فإن القوم كانوا ينتهزون مختلف الفرص ليقوموا بواجب التذكير والوعظ، والإرشاد والهداية. والناظر في خطب هذه الفترة يجد شبهاً كبيراً بتن هذه الخطبة وخطبة عمر بن عبد العزيز، وكذا بينها وبين خطبة سليمان بن عبد الملك، اجتمع فيها كلها التحذير من مفاتن الدنيا، وتصوير نهاية الأحياء في ذل وهوان، كما اشتملت على التنويه بفضل القرآن والحث على اتّباع آيه وهديه، كما اتفقت في الأسلوب المبنى على المزاوجة، وظهور السجع اليسير في غير ما تعمُّل.
هما موقفان تاريخيان، أما موقف واصل فقد ألقى الضوء عليه، وأما موقف ابن زيدون فهو ذلك الموقف البياني الحرج الذي وقفه عند منصرَف الناس وعظمائهم وكبرائهم من جنازة ابنته التي واراها التراب، إذ نهض معه بيانهُ يشكر لهذا بقول غير ما يقوله لذاك، فيقولون: إنه ما أعاد في ذلك الوقت عبارة لأحد وهو عجيب حقاً في ذلك الظرف الذي يغيض معه البيان، ويهرب اللسان. قال الصفدي: "وهذا من التوسع في العبارة، والقدرة على التفتن في أساليب الكلام، وهو أمر صعب إلى الغاية، وأرى أنَّه أشقّ مما يحكى عن واصل بن عطاء، أنه ما سمعت منه كلمة فيها راء، لأنه كان يلثغ بحرف الراء لثغة