إبطال التكاليف، وهذا الدليل يقتضى أن يجب على العامي أن ينتحل مذهبًا معينًا ابتداء، وإن لم يوجد منه تقليد لاحد منهم، وفيه أيضًا الخلاف السابق لكن يجب أن يرتب عليه، فإن قلنا في الأولى: لا يجب عليه تقليده، فلان لا يجب عليه تقليد مذهب معين ابتداء بطريق الأولى.
وإن قلنا هناك يجب تقليده فها هنا وجهان، ووجه الفرق ظاهر.
واحتج من جوز ذلك مطلقًا بإجماع الصحابة، فإنهم كانوا يجوزون للعامي أن يستفتى من بعضهم في مسألة، ومن البعض الأخر في مسالة أخرى، ولم ينقل عن أحد منهم الإنكار في ذلك، ولم ينقل عنهم أيضًا أنهم كانوا يلزمون العوام ابتداء بتقليد مذهب واحد منهم ولو كان ذلك غير جائز لما جاز منهم إهماله والسكوت على الإنكار عليه فكان ذلك إجماعا منهم على جواز ذلك.
واحتج من قال بالتفصيل: أنا لو لم نقل بذلك بعد تفرد المذاهب، وتمهيد كل منهم أصولاً تفي بأحكام الوقائع كلها لأدى ذلك إلى الخبط وعدم الضبط، وإعدام التكاليف وإبطال فوائدها كما تقدم تقريره، وأما في زمن الصحابة- رضي الله عنهم- كان ذلك غير واجب؛ لأن كل واحد من المجتهدين منهم ما كان قرر لنفسه مذهبًا ومهد أصولاً وقوانين تفي بأكثر أحكام الوقائع فضلاً عن أن تفي بكلها، بل ما كانوا ينظرون في مسألة إلا بعد وقوعها لاشتغالهم بالحروب لإعلاء كلمة الله فلا جرم كانوا يجوزون لهم الاستفتاء ممن اتفق وما كانوا يلزمونهم بتقليد واحد منهم، فلا يلزم من جواز ذلك في زمانهم جوازه في زمان تقررت فيه المذاهب والأصول، وتلخصت فيه القواعد والفصول.
وأما إذا التزم العامي مذهبًا معينًا، كمذهب الشافعي- رضى الله عنه- أو غيره فهل يجوز له الرجوع عنه، والأخذ بقول غيره في مسالة من المسائل أم لا؟