أو تفكَّر في نفسه ساعة، وإذا شرع في حكاية الأحوال، وخاض في علوم الصوفية في فصول مجالسه بالغدوات: أبكى الحاضرين ببكائه، وقطّر الدماء من الجفون بزعقاته ونعراته وإشاراته، لاحتراقه في نفسه، وتحققه بما يجري من دقائق الأسرار " (?). اهـ.
وقد تجلّى ذلك في خلقه وسلوكه مع من حوله، ومن ذلك خلق التواضع، فقد ذكروا: " أنه كان من التواضع لكل أحد بمحلٍّ يتخيل منه الاستهزاء، لمبالغته فيه.
ومن حميد سيرته: أنه ما كان يستصغر أحداً حتى يسمع كلامه، شادياً كان أو متناهياً .. صغيراً كان أو كبيراً، ولا يستنكف أن يَعزي الفائدة المستفادة إلى قائلها، ويقول: إن هذه الفائدة مما استفدته من فلان، وإن كان من تلاميذه ".
" وإذا لم يرض كلام أحد زيّفه، ولو كان أباه أو أحد الأئمة المشهورين " (?).
فهذا كله ينطق بأن هذا الإمام قد رُزق من نقاء القلب ما رُزق من ذكاء العقل، والله يختص بفضله من يشاء.
الإخلاص والشجاعة:
ومن الفضائل التي تميز بها إمام الحرمين، وتبدو واضحة لكل من درس حياته وتراثه بلا تعصب له ولا عليه: الإخلاص في طلب الحقيقة، عن طريق العقل الناقد، والشرع الضابط، فإذا كَشفت له الحقيقة قناعَها، ومدت له شعاعَها، بادر إلى الإيمان بها واعتناقِها، والإعلانِ عنها، بشجاعة لا نظير لها، وإن كانت مخالفة لما عليه الجمهور، أو ما عليه المذهب، وما مضى عليه دهراً من حياته، وقضى سنين عدداً وهو يدرسه ويصنّف فيه، ويذود عنه، ويحث على اتباعه.
وهذا واضح في مذهبه (العقدي) أكثر منه في مذهبه الفقهي. فمن المعروف والمشهور: أن إمام الحرمين كان من كبار متكلمي الأشاعرة، المؤوِّلين لآيات الصفات وأحاديثها، المدافعين عن التأويل. وقد برز في (علم الكلام) واشتهر به، وصنف فيه التصانيف التي سارت بذكرها الركبان، مثل (الشامل) و (الإرشاد)