"الثالثة: لا بد له أن يعرف من الكتاب, والسنة, وما يتعلق بالأحكام, والإجماع, وشرائط القياس، وكيفية النظر, وعلم العربية, والناسخ والمنسوخ، وحال الرواة, ولا حاجة إلى الكلام والفقه؛ لأنه نتيجته". أقول: شرط الاجتهاد كون المكلف متمكنا من استنباط الأحكام الشرعية، ولا يحصل هذا التمكن إلا بمعرفة أمور أحدها: كتاب الله تعالى، ولا يشترط معرفة جميعه كما جزم به الإمام وغيره، بل يشترط أن يعرف منه ما يتعلق بالأحكام وهو خمسمائة آية كما قاله الإمام. قال: ولا يشترط حفظه عن ظهر قلب, بل يكفي أن يكون عارفا بمواقعه، حتى يرجع إليه في وقت الحاجة، والاقتصار على بعض القرآن مشكل؛ لأن تمييز آيات الأحكام من غيرها متوقف على معرفة الجميع بالضرورة، وتقليد الغير في ذلك ممتنع؛ لأن المجتهدين متفاوتون في استنباط الأحكام من الآيات. لا جرم أن القيرواني في المستوعب نقل عن الشافعي أنه يشترط حفظ جميع القرآن وهو مخالف لكلام الإمام من وجهين. الثاني: سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولا يشترط أيضا فيها الحفظ ولا معرفة الجميع كما تقدم. الثالث: الإجماع، فينبغي أن يعرف المسائل المجمع عليها حتى لا يفتي بخلاف الإجماع, وليس المراد حفظ تلك المسائل كما نبه عليه الغزالي، بل طريقه كما قاله الإمام أن لا يفتي إلا بشيء يوافق بعض المجتهد، أو يغلب على ظنه أنها واقعة متولدة في هذا العصر، لم يكن لأهل الإجماع فيها خوض. الرابع: القياس فلا بد أن يعرفه ويعرف شرائطه المعتبرة وقاعدة الاجتهاد والموصل إلى تفاصيل الأحكام التي لا حصر لها. الخامس: كيفية النظر, فيشترط أن يعرف شرائط الحدود والبراهين، وكيفية تركيب مقدماتها، واستنتاج المطلوب منها ليأمن من الخطأ في نظره. السادس: علم العربية من اللغة والنحو والتصريف؛ لأن الأدلة من الكتاب والسنة عربية الدلالة، فلا يمكن استنباط الأحكام منها إلا بفهم كلام العرب إفرادا وتركيبا, ومن هذه الجهة يعرف العموم والخصوص، والحقيقة والمجاز, والإطلاق والتقييد، وغيره مما سبق, ولقائل أن يقول: هذا الشرط يستغنى عنه باشتراطه معرفة الكتاب والسنة، فإن معرفتهما مستلزمة لمعرفة العربية بالضرورة. السابع: معرفة الناسخ والمنسوخ لئلا يحكم بالمنسوخ المتروك. الثامن: حال الرواة فلا بد من معرفة حالهم في القوة والضعف، ومعرفة طرق الجرح والتعديل؛ لأن الأدلة لا اطلاع لنا عليها إلا بالنقل, فلا بد من معرفة النقلة وأحوالهم، ليعرف المنقول الصحيح من الفاسد. قال الإمام: والبحث عن أحوال الرواة في زماننا مع طول المدة وكثرة الوسائط كالمتعذر, فالأولى الاكتفاء بتعديل الأئمة كالبخاري ونحوه، قال: فظهر بما ذكرناه أن أهم العلوم للمجتهد علم أصول الفقه. قوله: "ولا حاجة" أي: لا يحتاج المجتهد "إلى علم الكلام" لإمكان استفادة الأحكام الشرعية من دلائلها لمن جزم بأحقية الإسلام على سبيل التقليد، ولا إلى التفاريع الفقهية أي: مما ولده المجتهدون بعد اتصافهم بالاجتهاد، كما قاله الإمام لأنه نتيجة الاجتهاد, فلا يكون شرطا وإلا لزم توقف الأصل على الفرع وهو دور، وشرط الإمام أن يكون عارفا بالدليل العقلي كالاستصحاب، وعارفا بأننا مكلفون به، وأهمله المصنف. قال في المحصول: والحق أن صفة الاجتهاد قد تحصل في فن دون فن، بل في مسألة دون مسألة، خلافا لبعضهم.