قال: وقع التعبد به، ومنهم من توقف فيه مطلقا، ومنهم من توقف في الحاضر دون الغائب. قال: والمختار جوازه مطلقا، وأن ذلك مما وقع حضوره وغيبته ظنا لا قطعا، وذكر الغزالي وابن الحاجب نحوه أيضا، واختار الإمام جوازه مطلقا، وأما الوقوع فنقل عن الأكثرين أنهم قالوا به في حق الغائب لقضية معاذ، وأنهم توقفوا فيه في حق الحاضر, ومال إلى اختياره، وكلام المصنف أيضا مطابق له كما ستعرفه. إذا علمت ما قلناه علمت أن ما نقله المصنف من الاتفاق على جوازه للغائب ممنوع، وعبارة الإمام أنه جائز بلا شك، ثم استدل المصنف على جوازه في حق الحاضرين بأنه لا يمتنع أمرهم به أي: لا يمتنع عقلا ولا شرعا، أن يقول الرسول للحاضرين عنده: قد أوحي إليّ أنكم مأمورون بالاجتهاد والعمل به، فإن ذلك لا يلزم منه محال لا لذاته وهو ظاهر، ولا لغيره إذ الأصل عدمه، فمن يدعيه فعليه البيان. قوله: "قيل: عرضة ... إلخ" أي: استدل المانعون بأن الاجتهاد عرضة للخطأ بلا شك، والنص آمن من سلوك السبيل المخوف مع القدرة على سلوك الآمن قبيح عقلا، والجواب لا نسلم أن الاجتهاد تعرض للخطأ بعد إذن الشارع فيه، فإنه لما قال للمكلف: أنت مأمور بالاجتهاد وبالعمل به، صار آمنا من الخطأ؛ لأنه حينئذ يكون آتيا بما أمر به، هكذا أجاب به الإمام وأتباعه فتبعهم المصنف وهو ضعيف؛ لأن الإذن في الاجتهاد لا يمنع من وقوع الخطأ فيه كما ستعرفه, بل إنما يمنع من التأثيم، والأولى الجواب أن يقال: لا نسلم أنه قادر على تحصيل النص، فإنه قد يسأل عن الواقعة فلا يرد فيها شيء، بل يؤمر فيها بالاجتهاد، سلمناه، لكن لا نسلم أن ترك العمل بمقتضى الاحتياط قبيح، سلمنا لكنه فرع عن قاعدتي التحسين والتقبيح العقليين. قوله: "ولم يثبت وقوعه" هو عائد إلى المسألة التي قبله وهو اجتهاد الحاضر، ولا ينبغي إعادته إلى الغائب أيضا، فإنه مع كونه مخالفا الظاهر فإنه مخالف لرأي الأكثرين، والذي مال إليه الإمام كما تقدم إيضاحه. إذا علمت هذا فنقول: أما الوقوع للغائب فدليله قصة معاذ لما بعثه إلى اليمن، وأما التوقف في حق الحاضر فيظهر بذكر أدلة الفريقين، وذكر جوابها كما فعله الإمام فلنذكر ما ذكره، فنقول: احتج المانعون بوجهين، أحدهما: أن الصحابة لو اجتهدوا في عصره -عليه الصلاة والسلام- لنقل، وجوابه أن عدم النقل قد يكون لقلته، ثم إنه معارض بقصة سعد وغيره كما سيأتي. الثاني: أنهم كانوا يرفعون الحوادث إليه، ولو كانوا مأمورين بالاجتهاد لم يرفعوها له، وجوابه أن الرفع قد يكون لسهولة النص, أو لأنه لم يظهر لهم في الاجتهاد شيء، واحتج القائلون بالوقوع بأمرين، أحدهما: تحكيم سعد بن معاذ في بني قريظة, وعمرو بن العاص وعقبة بن عامر ليحكما بين رجلين، وجوابه أن ذلك من أخبار الآحاد فلا يجوز التمسك به إلا في مسألة عملية، وهذه المسألة لا تعلق لها بالعمل. الثاني: قوله تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} [آل عمران: 109] وجوابه: أن ذلك كان في الحروب ومصالح الدنيا, لا في أحكام الشرع. قال: