فما رأيت من كل ذلك إلا النقصان، وما استفدت من المتاجر إلا الخسران.

وكان من جملة ما خدمت أساتيذه، وتتبعت دلائله وأسانيده.

الفنون الأدبية، والعلوم الفقهية.

حتى صار لي ملكةٌ في الأخذ من الأسانيد والدلائل، وقدرةٌ على كتب الحواشي وتحرير الرسائل.

خصوصاً فن الكتابة والإنشا، إذ بهما يكون للمرء ما يشا.

ثم خلج في خلدي الرحلة إلى بلاد الروم، لأتمم بها طلب العلوم.

فلما من الله تعالى علي بدخولها، واجتمعت بعلمائها وفحولها.

فإذا هم غارقون في بحور النعم، معروفون بالجود والكرم.

وكنت في بعض الأيام، أتردد على صدورها العظام.

تارةً بما استطعت من قصيدةٍ نظمها بديع، وأخرى برسالةٍ عقود ترتيبها مرصعة بالدر الصنيع.

وكان دأبي تتبع آثار المتقدمين، لأن ما قدموه لا يتهم ككلام المتأخرين.

ومن العادة، أن أهل كل صناعة، يكرمون القادم عليهم من أهلها بحسب الاستطاعة.

فأكرموني بحسب استطاعتهم، وجادوا علي بقدر مروءتهم.

فأعطوني مدرسة، كانت عاقبتها علي فقرا ومنحسة.

فكنت أكثر الأيام، لا أذوق الطعام.

وغالب الأوقات، أحرم الأقوات.

حتى نفد مالي، وتبدد حالي.

وجار علي الزمان، بالذل والهوان.

فبعت كتبي، وأنفقت ذهبي.

كلما عرفت حالي تنكر، وعند ابتداء خروجي من عندهم لم يبق عندهم مني خبر.

ففي يوم من الأيام كنت أكابد الجوع، وأصبر قلبي المسكين الموجوع.

إذ مررت بباب بعض الأكابر، وكان يعرفني من مصر وأنا أبيع الجواهر.

فناداني: ألست الجوهري؟ قلت: نعم، أنا الحسني المصري.

فقال: يا من حضر، الحذر، كل الحذر، من حوادث الدهر فإنه ليس مأمون الخطر.

يعز الذليل، ويذل العزيز، ويحط الجليل.

يخفض المرفوع، ويغير الموضوع.

ثم التفت إلي التفات الشفيق، وقال: إن كلام الشاعر بالتصديق حقيق.

فيما ذكر من الأبيات، في شأن بعض الحكايات.

رواية عن تاجر، أنه التقط شيئاً من الجواهر.

وانتخب منها درة، تساوي بدرة.

فبينما هو سائرٌ في بعض القرى، إذ سقطت الدرة في الثرى.

ومكثت سنةً مكملة، في تلك المزبلة.

فالتقطها أحد الأكارين، وباعها بدرهمين.

فلما بلغ خبرها إلى الشاعر، الأديب الماهر.

أنشد وقال، هذا المقال:

رأيتُ بسُوقٍ دُرَّةً ذاتَ قيمةِ ... يُنادَى عليها بين قَوْمٍ أخِسَّةِ

أبِيعتْ بِبَخْسِ السِّعْرِ من غيرِ أهْلِها ... فأصْبحتُ من غَيْظِي بهَمٍ وحَسْرةِ

عجِبْتُ لِمَا شاهدْتُه من عجائبٍ ... وقلتُ لهم بَيْتاً به خيرُ حكمةِ

أيا دُرَّةً بين المَزابِل أُلْقِيَتْ ... وجَوْهرةٍ بِيعتْ بأرْخصِ قِيمةِ

فلما سمع الحاضرون كلامه، أظهروا الملامة، ووقفوا أمامه.

وقالوا: لقد بالغت في وصفه، وأطنبت في نعت حاله ورصفه.

فقال: من كان أديباً فليساجله، ويناقشه ويعامله.

فما منهم إلا سأل وأجبته، وخاطبته الخطاب الوسط وما رهبته.

فلما سمع مني صاحب الدار، أجوبتي الحاضرة عن أسئلة أولئك الحضار.

وعدني بوعدٍ حسن، وأنا في انتظاره إلى هذا الزمن.

فخرجت محتاجاً إلى ذرةٍ من درهم في صره، أو لقمةٍ من بره.

فعجب القوم من مدحٍ يوجب الإحسان، وحرمانٍ يقتضي ذم ذلك الإنسان.

محمد خفاجي الزيات غرةٌ في ناصية الدهور، وابتسام في فم الزهور.

له أخلاق من لب اللباب، كما تبسم فم الكأس عن الحباب.

فالراح بسلسلها ممزوجة، والرياض على منوالها منسوجة.

وقد خلص كلامه من التهجين، كما تسل الشعر من العجين.

أثبت له ما تظل الأفكار لحلاوة تعبيراته شائقة، كالشهد لأجل حلاوةٍ رغبت إليه كل ذائقة.

فمنه قوله في الغزل:

هامَ الفؤادُ وقد صَبَا بغَزالِ ... فضَح الغَزالةَ والغرامُ غَزا لِي

سحَر العُيونَ ففي مَ عذَّب خاطرِي ... وسَبا القلوبَ ففي مَ غيَّر حالِي

رفَع السَّقامُ لخَصْرِه بعضَ الذي ... يلْقى فقابلَه بنَصْبِ الْحالِ

ما لِلْعَذُولِ إذا جَفَا بدرُ الدجى ... أو مَاسَ بالقَدِّ القويمِ ومَالِي

أفْدِيه وهْو أجلُّ شيءٍ يُفْتَدى ... بالرُّوحِ منِّي لا أقُول بمَالِي

طور بواسطة نورين ميديا © 2015