ولكنَّ خَدِّي اصْفَرَّ من سَقَمِ الهَوى ... فسالَ به واللونُ لَوْنُ إنائِهِ
إذا تقرر هذا، فنقول: الظاهر أن هذا الشاعر قصد أن عبراته هو اتصفت في حالة التوديع، وذلك المهيع الفظيع، الموجب لنحول الجسد، وحلول الكمد، وكسوف البال، وتغير الحال، وترادف الزفرات، وتتابع العبرات، واضطراب القلب، واضطرام الصدر، وانتهاب الصبر، بوصفين: أحدهما؛ أنها لفرط انصبابها، وتلاحق تساكبها، صارت حجاباً مانعاً، وستراً حائلاً بينه وبين رؤية ما هو بمرأى ومسمعٍ منه، فبهذا الاعتبار صح الحكم عليها بأنها فرقت بين محاجره التي كان ينظر منها، ومعاجر المحبوبة التي ينظر إليها، وهذا وصفٌ ممكن.
والثاني؛ أن عبراته اتصفت بلونين متقابلين، وذلك أنه لفرط بكائه، وحزنه وعنائه، في تلك الحالة الحويلة، التي تخدع العقل وتسحره، وتملك اللب وتقهره، وتغلب القلب وتبهره، فاضت عبراته تارةً دماً أحمر، يشبه الشقائق في لونها، وهذا قريبٌ من الإمكان، على ما قيل: إن أصل الدموع الدم، وتارةً دماً مشرباً بزرقةٍ يشبه البنفسج في لونه؛ وهذا بعيدٌ من الإمكان عادةً، لأن مادة البكاء إنما تكون من فضولٍ تصعدت إلى الدماغ من الرطوبات المنفصلة عن هذا الجسم، وليس في لونها زرقة، ولكن هذا من المبالغات الشعرية، التي لا تنخرط في سلك التحقيق؛ لكونها مقبولةً عندهم، بل كلما زاد الشاعر في ادعاء غير الممكن كان الشعر مستحسناً، حتى قيل: لو صدق الشعر لما استحسن.
غير أن هذا وإن كان بعيداً عن الإمكان، يقربه أن حالة التوديع توجب تغيراً في سحنة الوجه، بحيث يتراءى أن فيه زرقةً، فإذا فاضت عليه العبرات، تلونت بلونه؛ لكونه جوهراً شفافاً، يتلون بلون إنائه.
وهذا له مساسٌ بمقاصد الشعراء وتخيلات البلغاء، خصوصاً والدمع قد تغالوا فيه، حتى أخرجوه عن سعة دائرة الإمكان، إلى أوسع مكان، ألا ترى إلى ما تخيله بعض الشعراء، في وصفه بالزرقة حيث قال مخبراً عن محبوبته:
قالتْ وقد نظَرتْ لزُرْقةِ أدْمُعِي ... أكَذَا يكون بكاءُ صَبٍ شَيِّقِ
فأجَبْتُها قد مات في جَفْنِي الكْرَى ... فَجرَت دُموعِي في الحِدَادِ الأزْرَقِ
إذا تقرر هذا، ظهر لك صحة الحكم على عبراته بأنها جمعت بين البنفسج، وهو الدمع الموصوف بما ذكر، والشقائق، وهي الدمع الذي استحال دماً، فأشبه الشقائق في لونها، من غير نظرٍ إلى عبرات المحبوبة التي لم يكن في سياق الأبيات ما يدل على أنها كانت مكحولةً، كما اعترف هو به، وتكلف لها جواباً لا يسمن ولا يغني من جوعٍ.
على أن الدمع المشرب بالكحل لا يحسن أن يشبه بالبنفسج، كما هو ظاهر، فإن البنفسج، إنما يشبه ما فيه زرقةٌ لا سواد.
وهذا وجهٌ جميل، له من اللطافة ما ترى، وأنت إذا تابعت النظر يوشك أن يلوح لك وجهٌ آخر.
تاج العارفين بن عبد العال تاج مفرق عصره، وغرة جبين مصره.
من بيتٍ علمه منسجم الغمائم، عم نفعهم العالم، من منذ تتوجوا بالعمائم.
وقد نبغ هو كما شاءت معاليه، فازدانت به أيامه ولياليه.
مهابة تقدم لحظته، وبراعةً تتقد لفظته، ولطفاً ملىء به جسمه، وصفاءً قام به وسمه.
فمناقبه غررٌ على أوجه الأيام تسيل، وشرفه لا يلحقه السابق ولا الرسيل.
وله شعرٌ وإنشاء رائقان، وفي معارج اللطافة إلى فلك القبول راقيان.
وقد جئتك منهما بما تشتم به نفساً ينسي السوسن المبلول، وتنفح منه نفحاً يهدي لك نور الربى المطلول.
فمن ذلك ما كتبه إلى عبد الرحمن المرشدي، مفتي مكة:
أذَكرْتَ رَبْعاً من أُمَيْمةَ أقْفَرَا ... فأسَلْتَ دمعاً ذا شُعاعٍ أحْمَرَا
أم شاقَك الغادُون عنك بسُحْرَةٍ ... لمَّا سَرَوا وتَيَمَّمُوا أُمَّ القُرَى
زَمُّوا المَطِيَّ وأعْنَقُوا في سَيْرِهم ... لِلّهِ دمعِي خَلْفَهم يا ما جَرَى
ما قُطِّرتْ في السَّيْرِ أجْمالٌ لهم ... إلاَّ ودمعي في الرِّكابِ تقطَّرَا
فكأنَّ ظَهْرَ الْبِيدِ بَطْنُ صَحِيفةٍ ... وقِطارُها فيه يُحاكِي الأسْطُرَا
وكأنها بهَوادِجٍ قد رُفِّعتْ ... سُفُنٌ ودمعُ الصَّبِّ يحكي الأبْحُرَا