وأما دمعها هي، فإنه إذا اختلط بكحل عينها، أشبه البنفسج من حيث اللون؛ وباعتبار جريانه على الوجنات حصل الجمع بين البنفسج وهو الدمع المذكور، وبين الشقائق وهي الخدود.

وقد شبه بعض الأدباء البنفسج بالكحل الممتزج بالدمع، حيث قال:

بَنَفْسَجٌ حُمِيَتْ أزْهارُه فحكَى ... كُحْلاً تشرَّب دَمْعاً يومَ تَشْتيتِ

فلا بدع إذن في تشبيه الدمع، الذي هذه حالته بالبنفسج، ووجه الشبه ما قلناه.

والملخص أن العبرات التي جرت من هذين في حالة التوديع، أوجبت حالةً اختص بها القائل، وهي التفريق المذكور، وحالةً تختص بالمقول، وهي الجمع على الصفة المذكورة، وهذا كله ظاهرٌ، متجهٌ، لا يرد عليه شيءٌ، إلا أن الشاعر لم يصرح في نظمه بأن المتغزل فيها كانت مكحولةً، حتى يشبه دمعها الممتزج مع الكحل بالبنفسج.

وجوابه أن يقال: أحال الأمر في ذلك على ما يقتضيه الذوق السليم، وأشار إلى ذلك بالتشبيه المذكور، فيتلطف له في هذا القدر.

هذا كلامه، وأما الطيبي فإنه قال: يحتمل أن المراد بالبنفسج والشقائق عارض الرجل وخد المرأة، ويحتمل أنها حين الوداع مزقت جلدها، ولطمت خدها، أي جمعت بين أثر اللطم، وهو شبيهٌ بالبنفسج، وبين لون الخد، وهو شبيهٌ بالشقائق، لكن الثاني أولى؛ لأن العارض إنما يشبه بالبنفسج عند طريان الخضرة، وليس في الشعر ما يدل على شباب الخضرة. انتهى.

قال الدماميني: قلت: إنما أنشد في التبيان البيتين الأخيرين، ولم يتكلم على معنى التفريق بين المحاجر والمعاجر في الاحتمال الأول، ولم يتقدم في هذه الأبيات الثلاثة ما يصلح أن يكوم معاد الضمير في فرقن، وجمعن غير العبرات، وعليه فلا معنى لشيءٍ من الاحتمالين اللذين أبداهما الطيبي، وإنما غره في جعل الضمير للنسوة المودعات كونه لم يظفر بالبيت الأول، وغلا فلو وقف عليه لتبين أن العبرات هي مرجع الضمير قطعاً؛ فإنه لا وجه بعد ذلك لنسبة التفريق والجمع للنسوة التي لم يجر لهن ذكرٌ.

إلى هنا كلامه؛ فإنك تراه كيف بين جهات الخلل في كلام صاحب التبيان، بما لا يمتري فيه من ذوي الفطرة إنسان.

وهذا ما ظهر لنا من الجواب، الجاري على منهج الصواب، فنقول: إن المفلقين من الشعراء، والمصاقع من البلغاء، قد تغالوا في وصف الدمع بما تبتهج به النفوس، ويروق السمع، فأخرجوه عما هو معهود ومأهول، وجعلوه متصل الجري دائم الهمول، من غير فترةٍ في وقتٍ دون وقت، وادعوا فيه أنه كالمطر حتى سقوا به الديار الآنسة، والأطلال الدارسة، إلى غير ذلك من المبالغات الشعرية، التي لا تنخرط في سلك التحقيق، وادعوا أيضاً أن الدموع تبدلت بالدم، ومنه قول أبي تمام:

وأجْرَى لها الإشْفاقُ دَمْعاً مُوَرَّداً ... مِن الدَّمِ يجْرِي فوقَ خَدٍ مُوَرَّدِ

ومن هذا اتضح باب تشبيه الدمع بالعقيق والمرجان والياقوت، بمجرد حمرة اللون.

ولما غلب استعمال الشعراء للدمع بالدم، وتداولت الأسماع وروده عليها، وألفت وقوعه فيها، صار حقيقةً عرفيةً عند الخاص والعام، وصار هو الأصل والدمع فرعاً عليه، حتى ادعى الشاعر أن المحبوبة أنكرت دمعه، وطالبته بالحجة والعذر عن بياضه، فقال:

وقائلةٍ ما بالُ دَمْعِك أبْيَضاً ... فقلتُ لها يا عَزُّ هذا الذي بَقِي

ألم تعْلمي أن البُكا طال عُمْرهُ ... فشابتْ دُموعِي مثْلَما شابَ مَفْرِقِي

وقال الآخر:

قالُوا ودَمْعِي قد صَفَا لِفِراقِهمْ ... إنَّا عَهِدنا منك دَمْعاً أحمرَا

فأجَبْتُهم إن الصَّبابةَ عُمِّرتْ ... فيكم وشابَ الدَّمْعُ لَمَّا عُمِّرَا

وقال بعضهم في الدمع الأسود:

وقائلةٍ ما بالُ دمعِك أسْوداً ... وجسمُك مُصْفَرَّاً وأنتَ نَحِيلُ

فقلتُ لها أفْنَى جَفاكِ مدامِعِي ... وهذا سَوادُ المقْلتيْنِ يَسِيلُ

وقال الآخر في الدمع الأخضر:

وقائلةٍ ما بالُ دمعِك أخْضَرا ... فقلتُ لها هل تفْهمين إشارَتِي

ألم تعْلمِي أن الدُّموعَ تجفَّفتْ ... فأجْرَيتُها يا مُنْيَتِي من مَرَارتِي

وقال الآخر في الدمع الأصفر:

وقائلةٍ ما بالُ دمعِك أصْفرَا ... فقلتُ لها ما حالَ عن أصْلِ مائِهِ

طور بواسطة نورين ميديا © 2015