ويكون الفقر نقمةً طبق الاستحقاق المسطور، أو نعمةً لتنزيه النفوس الشريفة عن متاع الغرور.
ويشارك الغنى في الابتلاء والاختبار، والمصلحة التي يعلمها الحكيم المختار.
فحق المحبو بالغنى أن لا يألو جهداً، في أن يوالي شكراً وحمدا.
وأن يتوصل به لاكتساب الأخرى، ويتصرف فيه بما هو الأولى والأحرى.
ويتخرج من عهدة النوافل والحقوق، ويتحرج عن وصمة التغافل والعقوق.
ويستعيذ بالله من إملائه وفتنته، ويحذر أن تغلب الغفلة على فطنته.
وإياه ثم إياه، أن يشغله عن مولاه.
وتحت هذا الإجمال تفصيلٌ طويل، الويل لمن أضرب عنه والعويل.
وحق الممنو بالفقر أن يأخذ بالرضا والتسليم، ويقابل حكم الحكيم بقلبٍ سليم.
ويكشره على آلائه، حيث اختصه بشعار أنبيائه وأوليائه.
وينيب إلى باريه بالتوبة، ويستعيذ به من شؤم الإثم والحوبة.
ويعتاض بعز القناعة والكفاف، ويرتاض على الزهد والعفاف.
ويعتصم بحبل التقى، ويحذر من التخلص بالشفا من الشقا.
ولا ييأس من روح الفرج، وإن عز في الضيق المخرج.
ولا يدع التلطف في الحيلة، لتكلف المظاهر الجميلة.
فهذه السنن المتبعة، مقنعة في الخرج من عهدة المواقع الأربعة.
إذا علم هذا وتقرر، وثبت لديكما وتحرر، فاعلما أن كل واحدٍ منكما جاور من هذه صفاته، وحاور من لا تصدع بالجهل صفاته.
فهو في معرك المفاخرة فارس الصفين، والحائز للقسم المحمود من الوصفين.
وإلا فهو المتسم بالوصف الأخير، الحري وإن قدم بالتأخير.
ثم إن أبيتما، إلا التمييز في الصفات بينكما، فأنت أيها الغني كالسيف الصقيل، يضيء حده في أعناق المعتدين والمهتدين، والجواد الأصيل يصلح حده لقطع السبل ولإعزاز الدين.
فلك الفخر الذي يزاحم الكواكب بالمناكب، لكن بعد النظر إلى الضارب والراكب.
وأنت أيها الفقر كالبحر الأجاج، يجري فيه الفلك مواخر، ويستخرج منه الدر الفاخر.
والقفر العجاج، ينجو سالكه من طلب أعدائه، ويرجو عند انتهاء السير لقاء أودائه.
فأنت الحائز للمفاخر، لكن باعتبار العواقب والأواخر.
ثم إني أقول ولا أخشى ملامة، إن الفقر أدل على منهج الاستقامة، وأقرب إلى ساحل السلامة.
وإن كان الغنى إذا كشف عن صاحبه الرين، ووفق على عزة التوفيق لأحمد الاختيارين، فهو الظافر بسعادة الدارين.
وبهذا التأصيل الوثيق، والتفصيل المطابق للتحقيق، يرتفع التناقض بين ما أوردتماه من الحجج، وقلتماه عند الخوض في تلك اللجج.
فتأملاه بعين البصيرة، وتناولاه بيدٍ غير قصيرة.
وعلى كل حال فأنا الممتحن المبتلى بكما، والمرآة المجلى فيها شكلكما.
ولم يكفكما تكليفي المشاق منفردين، حتى جئتماني مجتمعين، وحملتماني ما لو عرض على الجبال لأبين.
وأنا أسأل الله تعالى أن يمنح حكمي القبول، ويوفق بينكما بالإصلاح وهيهات أن تتفق الدبور والقبول.
قال راوي الحديث: فلما سمع الغنى والفقر ما جلاه العقل من الدلائل، وعلما أنه لم يبق مقالاً لقائل، ولا مصالاً لصائل، قاما حامدين للحكومة راضيين، وانطلقا لشأنهما كالسيفين الماضيين.
وتفرق أرباب المجلس وكلٌّ يقول: هذا هو الحكم العدل، والمنطق الفصل، ولواهب العقل جزيل الحمد والمنة والفضل.
محمد بن أحمد حكيم الملك بضم الميم وسكون اللام جواد لا يشق غباره، وكامل خلص من الزيف عياره.
سرح في فنون العلم وسام، واجتلى وجوه خطاياه وهي نضرة وسام.
وهو من بيت رياسةٍ وجلالة، وقومٍ لم يرثوا المجد عن كلالة.
وكان لسلفه عند ملوك الهند آل تيمور، محلٌّ بندى أكفهم معمور، ومنزل بفائض عوارفهم مغمور.
ولما ورد جده مكة المشرفة، قصد آل الحسن السادة، فأحلوه المحل الذي ينبيه أعين الحسادة.
وولد صاحب الترجمة بمكة، فنشأ في بيت مجدٍ علا قدره، ورضع من ضرع ذلك المحتد فلله دره.
فجمع بين تليد المجد وطريفه، وقال من ظل الرعاية في فسيحه ووريفه.
قال ابن معصوم: ولم يزل متبعا تلك الدار، محمود الإيراد والإصدار.
مع تمسكه من سلطانها الشريف محسن بالعروة الوثقى التي لا تنفصم، وحلوله لديه بالمكانة التي ما حلها ابن دؤاد عند المعتصم.
حتى حصل عليه من الشريف أحمد بن عبد المطلب ما حصل، لما انحل عقد ولاية الشريف محسن منها وانفصل.
فكان ممن نهب الشريف داره وماله، وقطع من الأمان أمانيه وآماله.