فيدخل بفحوى العموم في جملة أقراني، ويصعد بهذا المفهوم إلى أوج قراني.
وهيهات هيهات، أين الثريا من يد المتناول، ومتى قال السها يا شمس أنت خفية، وقال الدجى يا صبح لونك حائل.
ولو انثالت من جيوش الكلام هذه الجحافل، في أحقر الأندية والمحافل، لميز في الحال بين البطل الشجاع، والخنع اليراع، وأسقط سقط المتاع، عن رتبة سكاب الذي لا يعار ولا يباع.
فكيف بهذا المجلس الذي انتشرت عليه غمائم الأدب والفضل، وشرت منه بوارق صوارم القول الفصل، وارتعدت بصواعق الجد فرائض الهزل، وهمرت سيول النفع والضر في شعاب التولية والعزل.
وإني سأحبس عن القول عناني، ولا آخذ إلا فيما عناني، حتى تنحسم أباطيل الأماني، وتمحي عن صحائف الخواطر وساوس ماني، وأجازي بالشكر من عرف قدري فأسماني.
قال: فبادر الفقر قائلاً: رب إني دعوت هذا الخصم للرشاد ليلاً ونهارا، ونصحته بالبيان المستفاد سراً وجهارا، فلم يزده دعائي إلا فرارا، وإصرارا على الجور واستكبارا.
ثم لم يكتف بذلك حتى أخذ يمكر بي مكراً كبارا، ويتقرب للحضرة السلطانية استظهارا علي واستنصارا، ويظن أن سينال بذلك لديها إيثارا.
كلا والله، تلك حضرةٌ شوط الباطل فيها قصير، وهي للحق وأهله نعمت النصير، ولا يتميز عندها للمتربع فوق السرير، على الجاثي على الحصير، وقد وقف الكلام بمنتهاه وغايته وصار إلى مصير.
ثم أقبل على العقل، وقال: يا مولانا الوزير، أنت المدبر والمشير، والحاكم على كل مأمور وأمير.
وأنت لسان الملك الناطق بلا اعتراض، ويده المتصرفة في سائر الأغراض، وطبيب أحكامه الشافي من كل الأمراض، ولك الأمر " فاقض ما أنت قاض ".
قال كريم الطباع، الراوي لهذه الأسجاع: فلما سمع العقل ما قالاه، ورآى أنهما ألزماه الحكومة وإن عثر ما أقالاه، لبث هنيئةً ينتظر الإذن في الكلام، ويحرر من القول ما يخرجه عن الملام.
إجلالا للحضرة السلطانية وتبجيلا، وعملا بما قيل:
إن الكلامَ لَفِي الفؤادِ وإنما ... جُعِلَ اللسانُ على الفؤادِ دليلاَ
حتى حصلت له الإشارة، ووصلت نتائج أفكاره المستشارة.
فاستعاذ من الشيطان الرجيم، وقال: بسم الله الرحمن الرحيم.
أما بعد؛ فإن الحكومة معيار الذمم، ومحك الهمم.
وميزان الفضل والمعرفة، وميدان الأفكار المتصرفة.
وممر أنهار البلاغة والفصاحة، ومقر أطواد الرصانة والرجاجة، ومصرع جنوب المودة والصداقة، لكن في معارك ذوي الجهل والحماقة والحق يأبى الجمع بين النقيضين، والعقل يحرص على الإصلاح بين البغيضين.
والتوفيق عزير، وخير القول الجامع الوجيز.
وبحر المدح والقدح لا تفنى عجائبهم
ومَن ذا الذي تُرْضَى سَجاياهُ كُلُّها ... كفَى المرءَ نُبْلاً أن تُعَدَّ مَعايِبُهْ
ومن هنا أيها الفقر والغني ينبغي أن تعلما أنكما أدخلتماني في أضيق من سم الخياط، وكلفتماني المرور على جهنم فوق الصراط، وأشق المسالك الشرعية باب الاحتياط.
وأنا أستعين الله تعالى وأستهديه، وأسأله أن يوفقكما لقبول ما أبديه.
فقد أجبت السؤال وأطعت، وما أريد إلا الإصلاح ما استطعت.
أما أنت أيها الغنى؛ فإنك المحمود المذموم، الميمون المشئوم؛ المحبوب المبغوض، المطلوب المرفوض؛ النافع الضار، المقيم الفار، المنبه الغار.
وأما أنت أيها الفقر، فإنك العدو الصديق، المسعف الرفيق؛ المشقي المسعد، المهبط المصعد؛ الممرض المعافى، المعرض الوافي، المخل الكافي، الناقص الوافي.
وأنا أفصل لكما هذين الإجمالين، وأرفع التناقض بين الاحتمالين، حتى تنزهاني عن الجهل والمين، وتنقلبا بحقائق الأمور عالمين.
اعلما أن الله لم يخلق شيئاً عبثا ولعبا، " ولا يظلم ربك أحداً " أولاه راحةً أو تعبا.
وجميع نعمه ونقمه، منتظمةٌ في أسلاك حكمه.
وكل ما أودعه في عالم الكون والفساد، ذريعةٌ للعباد إلى كسب الفوز في المعاد.
وملاك نتيجة كل قضية، ما يهدي الله إلى اختياره حضرة النفس الإنسانية.
وقد أحلكما الله تعالى بين عباده في مواقع، يجوزها الشرع ولا يدافع، من أوفاها حقها ظفر بالعمل النافع، ومنقصر جوزي بعذابٍ واقع، ماله من دافع.
فيكون الغنى منحةً استوجبها المطيع فحواها، أو مصلحةً لا يصلح العبد سواها.
أو محنةً للاختبار والابتلا، أو فتنةً للاستدراج والإملا.