ولعلك تقول: إن من ذكرت، وشنعت عليهم وأنكرت، منك هربوا فلاذوا بسابغ ظلي، وفي حماك أجدبوا فاستسقوا وبلي وطلي، فأنت الذي حملتهم على أن يرتكبوا ما ارتكبوا، حتى حادوا عن القصد ونكبوا، فعوقبوا ونكبوا.
كلا، إن خرط القتاد، دوون هذا الإيراد.
فمن المعلوم أن كثيراً ممن ظهرت غواياتهم، وبعدت في الفساد غاياتهم، قد يرضى لنفسه بسمة القباحة، مع كوني لم أطرق له ساحة.
وإنما يقصد الزيادة من كيلك، أو التقويم لأودك عند ميلك، فتعشى عين بصيرته في ليلك.
وأما من سواهم، وقليلٌ ما هم، فلو كان قصده بأفعاله الشنيعة، إفلاته من حوزتي المنيعة، لكنت تراه يكتفي بالطفيف الذي يبعده عني، ولا يتآكد مصاعد التمني والتعني.
دليلُك أن الفقرَ خيرٌ من الغنَى ... وأن قليلَ المالِ خيرٌ من المُثْرِي
لقاؤُك شخصاً قد عصى الله للِغنَى ... ولستَ ترى شخصاً عصى اللهَ للفقرِ
ويؤكد هذه الأحكاك الجليلة، ما أثبتته الأدلة العقلية والنقلية، أن جمع الأموال، من وجوه الحلال، يكاد يدخل في المحال.
أما تعلم أن من قابلني بالرضا، والتسليم للقضا.
وكف نظره عن الطماح، وعامل هواه بالزجر لا بالسماح.
ظفر بكنز القناعة، وطفر عن وهاد الذل والخناعة.
وهجر كد الطلب ووباله، وفرغ بطاعة مولاه خاطره وباله.
وتمسك بأوثق الوسائل، لتحصيل العلوم والفضائل.
واستحق أن ينشد لسان افتخاره:
غيرِي يُغيِّره فِعالُ الجافِي ... ويحُول عن شِيَمِ الكريم الوافِي
ويرشد عند اختياره:
إن الغَنِيَّ هو الغنيُّ بنفْسِه ... ولَوَ انَّه عارِي المَناكبِ حَافِي
وأما من أبغضك وأحبني، ورفضك وقربني، وأبعدك وأنت قائمٌ في خدمته كبعض عبيده، وطردك وأنت باسطٌ ذراعيك بوصيده، فإنه رجل الدنيا وواحدها، وطالب الأخرى فواجدها.
وحسبك بإبراهيم بن أدهم بعد نزوله من أعلى القصور، وعمرو بن عبيد وجلالة قدره عند المنصور.
دع أهل هذه الطبقة وما حووه من المفاخر، واتل: " لقد كان لكم في رسول الله أسوةٌ حسنةٌ لمن كان يرجو الله واليوم الآخر ".
أليس قد ورد عنه صادق النبا، بأنه قد نشز عنك ونبا، وقد عرض عليه أن تصير معه جبال تهامة فضة وذهبا؟؟ ثم من العجب زعمك أنك العزيز وأنا الذليل، وأني الحقير وأنت الجليل.
ولو كنت تساوي عفطة عنز أو قلامة حافر، لما متع الله تعالى بك الفاسق والكافر.
وإن زعمت أن لك الفضل والنعمة، لأن مصاحبك يعد من ألي النعمة؛ فإن معك من المحن والأكدار، وهموم الخوف من طوارق الأقدار، وتوقي سوء السمعة في هذه الدار، ما لا ينقطع ولا ينتفي، ولا يستتر ولا يختفي.
وَازنْتُ بين مَلِيحِها وقبيحِها ... فإذا الملاحةُ بالقباحةِ لا تفي
وأني يهنأ بعي مستطاب، من يعلم أن حلالك حسابٌ وحرامك عقاب.
وكيف يتحمل منك الإفضال والإنعام، من يسمع " يدخل فقراء هذه الأمة الجنة قبل أغنيائها بخمسمائة عام ".
فدونكها غارةً شعواء، تخبط في عجاجها خبط العشواء، وداهيةً دهياء، تحقق عندك أنك الداء العياء.
تمنع الحدث الغر أن يصول، والهرم المجرب أن يقول:
يا ليْتني فيها جَذَعْ ... أخُبُّ فيها وأضَعْ
وتقرر في العقول، مفاد المثل المنقول:
ما طارَ طيرٌ وارْتفَعْ ... إلاَّ كما طارَ وَقَعْ
قد أصدرتها صيانة المروءة الشرعية، وحياطة حقوق النفس المرعية؛ لا بوادر القوة الغضبية، ونوادر النخوة والحمية.
لتفيدك موعظةً حسنة، وتتلو: لا تستوي السيئة والحسنة.
وتنشد البيت الدائر على الألسنة:
الخيرُ يَبْقَى وإن طال الزَّمانُ بهِ ... والشَّرُّ أخْبَثُ ما أوْعَيْتَ مِن زادِ
قال راوي الحديث: فما أتم الفقر مقاله، ورمى عن ظهره أثقاله؛ أقبل الغني على رأس المجلس وصدره، وشمس المحفل وبدره.
وقال: أيها النفس الشريفة، مد الله تعالى بك ظلال العقل الوريفة، إن حال هذا الجاهل طريفة أي طريفه.
لقد جهل الجهل المركب، وركب في غير سرجه هذا المركب.
وقصد إذ شوه وجه جمالي، وأود غصن كمالي، أن ينشد حرٌّ كريم، أو ذو أدب قويم:
كضَرائرِ الحَسْناءِ قُلْنَ لوجْهِها ... حَسَداً وبُغْضاً إنه لَذَمِيمُ