وليتك حين صددت عن الإنصاف وأبيت، لم تعمر بيتاً بخراب بيت.

أخبرني عن هذا الرئيس، الذي ملأت أنت له الكيس.

فزعمت أنه إنما صار لما ذكرت قائلاً، من حيث كان في ظلك قائلاً.

فلو كان ظامىء العود من مياه الكرم التي جرت فيه، جاف العنقود عن حلب سلاف البلاغة التي رشفت من فيه.

أتراه كان يقول ما قال، ويتحمل ما يستلزمه نطقه من الأثقال؟ أو تراه لو كان مربوطاً بأشراكي، ومخروطاً في أسلاكي، محوطاً بأفلاكي.

ثم كان ممن تشتق أفعال الكرم من مصدر طبعه، وتشق قسي الهمم من غروس نبعه.

ألم يكن ينطق بما به نطق ويرشد إلى ما إليه أرشد، حين أنشد البيتين من أنشد.

فلا تجهل علوم الأخلاق وأنت خبيرها،

فما الجودُ من فقرِ الرِّجالِ ولا الغنَى ... ولكنه خِيمُ الرِّجالِ وخِيرُهَا

وأما إزراؤك على الصعاليك، لتزيد بذلك في معاليك.

فكفاهم فخراً في الدين، قول علم المهتدين: " رب أشعث أغبر ذي طمرين لو أقسم على الله لأبره "، وما أشبه هذا مما طرق سمعك غير مرة.

وأما باعتبار الدنيا، ورتبتها الدنيا.

فإن فيهم من علا بالأوصاف قدره، وغلا للأضياف قدره، حتى أشرق من أفق الشعر بدره.

ولكنَّ صُعْلوُكاً صحيفةُ وجهِه ... كضَوءِ شهابِ القَابِسِ المُتنوِّرِ

إلى آخر الأبيات، المعلومة في الروايات.

فيا أيها الغني، هلا إذ نطقت، تحملت ما أطقت.

ورفعت نفسك من حيث لم تخفض سواك، وجلوت ثغرك بغير هذا السواك.

فإن الشريف الكريم، ينقص قدراً بالتعدي على الشريف الكريم، وولع الخمر بالعقول رماها بالتنجيس وبالتحريم.

قال: فنظر إليه الغني شزرا، وأعاره لحظاً نزرا.

وخاطبه مخاطبة متحكم، ولاطفه ملاطفة متهكم، فقال: عذراً أيها المسكين، ورفقاً أيها المستكين، فما أنا بلغت عظمك السكين، ولست الذي أنزل شكلك هذا البيت من التسكين.

إنما قلت في وفيك، ما كلانا به حقيق، ونسبت إلي وإليك، ما انعقد عليه الإجماع بالتحقيق.

فاستمع مني بعض أوصافك، واردد جماح أنفتك بلجام إنصافك.

وإن لم تصدق الناس ما أقول، فبرئت مني ذمة المعقول: ألست حائك شقق الهون والإذلال، وموشيها بوشي الكدية والسؤال، ومفصل أوصالها بمقراض الضجر والملال، وخائط تفاصيلها بخيوط الإلحاح الطوال، ومقدرها على قامات الرجال؟ فمفرغها عليهم للزينة والجمال! فاستجل فيهم هذا الوصف الشنيع، واستمل منهم شكر هذا الصنيع.

واعفني من عتابك، فإني أربأ بنفسي عن خطابك.

وإن حمى عزي المنيع المحرم، ومن لا يكرم نفسه لا يكرم.

ثم إنك مع ذا أردت جلاء العين فزدت قذىً، وأنزلت معالي الهدى في مغاني الهذا.

وتكلمت في حضرتي بشريف الآثار، كلام من يظن أنه فيها ذو استثيار، وأنت تعلم أني فارس نقعها المثار.

واستشهدت ببعض الأشعار، فأشهدت أن لمعانيها في ذهنك أشعار، وكلٌ عارفٌ بأني لا أركب في مضمارها الفرس المعار، ولا أقنع في معرفة أسرارها بالدثار دون الشعار.

وإن كنت تستطيع معي صبرا، فسأنبئك بما لم تحط به خبرا.

حسبي وإياك صيتاً وذكرا، أن الله سماني خيرا وسماك شرا، " إن الإنسان خلق هلوعاً، إذا مسه الشر جزوعاً، وإذا مسه الخير منوعاً ".

وجعلني من نعمه التي ذكر بها عباده كثرا، " وأمددناكم بأموالٍ وبنين وجعلناكم أكثر نفيراً ".

بل يشمل سيد البشر هذا المعنى، " ووجدك عائلاً فأغنى ".

وإن من دلائل فخري وسعدي، وهب لي ملكاً لا ينبغي لأحدٍ من بعدي.

وجعلك من المحن التي تسكب عندها العبرات، ولا تقال في حزونها العثرات، " ولنبلونكم بشيءٍ من الخوف والجوع ونقصٍ من الأموال والأنفس والثمرات ".

وإن شئت خفضتك طبقةً أخرى، ورويت لك " كاد الفقر أن يكون كفرا "، وما جرى هذا المجرى.

فأنت المبعد عن طاعة الخالق، لما تنزل بالخلائق، من الكرب والمضائق، وهي القواطع والعوائق.

وأنا الذي أيسر لهم سني البضاعات، المتوقف عليها كثيرٌ من الطاعات.

فلولا وجودي، ووجود جودي، لم يظفروا بثواب الزكوات والصدقات، وصلة الأرحام بالنفقات.

ومن أعظم هذا المرام، حج بيت الله الحرام.

وهل يستوي الإيسار والإفلاس، والله لم يدع إلى بيته سوى المياسير من الناس!

طور بواسطة نورين ميديا © 2015