فأحببت أن أجول في هذا المجال، ولو بالمحال، وأنسج على هذا المنوال، على وهن القدرة وضعف المجال، وقصور عامل الفضل على التسلط على هذه المحال.

اعترافاً مني بالتقصير، وإسعافاً بطلب المسامحة لباعي القصير.

ومَن يَعْصِ أطْراف الزِّجاج فإنَّه ... يُطِيع العَوالِي رُكِّبتْ كُلَّ لَهْذَمِ

فبنيت هذا المقصد على وضعٍ غريب، وترتيب يهش له الأديب والأريب، وأسلوبٍ يأخذه الطبع السليم عن قريب.

وجعلت المفاخرة بينهما على حقائق الأوصاف، وذكرت ما يقال من الطرفين بنهاية الإنصاف.

ثم أنهيت المخاصمة إلى التراضي بالمحاكمة، فحكمت بينهما مناط التكليف، ورباط الفضل الذي اختص به النوع الشريف.

فحكم حكماً يقضي منه الفريقان مآربهم، ويعلم كل الناس مشربهم " كلٌّ في فلكٍ يسبحون "، و " كل حزبٍ بما لديهم فرحون ".

والحق واضح الغرر والأحجال لقومٍ يعرفون، و " ماذا بعد الحق إلا الضلال فأنى تصرفون ".

حدث الغزل الرقيق، عن المديح الأنيق، عن السؤال الجميل، عن النوال الجزيل، عن الخاطر المطاع، عن كريم الطباع، قال: حضرت مجلساً من المجالس السرية، التي لم تزل تعقد بحضرة النفوس البشرية.

وقد حضر وزيرها العقل، وحاجبها الحلم، وقائدها الفهم، وقاضيها العلم، وخازنها الحفظ، ومنشيها الفكر، وشاعرها الخيال، ونديمها الوهم.

ومثلت للخدمة أعوانها المتظاهرة، وهي المدارك الخمسة الظاهرة.

وانتظمت في مراتبها سائر القوى، وغاب بحمد الله عدوها الهوى.

واتفق أن حضر المجلس الغنى والفقر، وهما الضدان المتناقضان، بل العدوان المتباغضان، والجوادان المتعارضان، بل القرنان المتناهضان.

إلا أن النادي جمع بينهما، وقرب على سبيل الاتفاق بينهما.

وخاض القوم في مجانح الحديث، من سوانح القديم والحديث.

فأراد بعض من حضر، طراد جياد البحث والنظر.

فتلطف بظرفه، ولحظ الغنى بطرف طرفه.

وقال: إني أحفظ بيتين، ورد الأول منهما على روايتين.

يبتني عليهما حكمٌ وأحكام، إذا تقرر مفادهما بإحكام.

وأنشد:

ولو أنِّي وَلِيتُ أميرَ جيشٍ ... لما قاتلتُ إلاَّ بالسؤالِ

لأن الناسَ ينْهزِمون منه ... وقد ثَبَتُوا لأطْرافِ العَوالِي

ثم قال: والرواية الأخرى، يعرفها من هو بإحراز شرفها أحرى.

قال كريم الطباع، الراوي لهذه الأسجاع: فابتدر الغنى لجوابه، وقد استخرج دقيق التعريض من جرابه، فقال: إن بعض من أسعده الجد بخدمتي، وأيده الجد بعزمتي، وسدده المجد بهمتي.

أنشده هذين البيتين بعض ندمائه، وجلاهما كالنيرين في سمائه.

فتفطن ذلك الرئيس، لمعنىً فيهما نفيس.

وأعاد إنشادهما في الحال، وقد وضع النوال موضع السؤال.

فأظهر شمائل همته العلية، في دلائل عباراته الجلية.

وسدد سهم الإصابة بساعد الكرم، فكنت قوسه ووتره ورمى مقاتل الفقر وما ظلم.

فأرداه ووتره، وألبس البيتين حلى الملوك بعد أن كانا في أسمال صعلوك.

حتى أشرق معناهما بالضياء المستفاد من شمسي، وأغدق معناهما بالأنواء الهاطلة من سماء يومي وأمسي.

قال: ثم تنبه إلى أن هذا الكلام، من بليغ الكلام.

وأنه بغى والبغي مرتعه وخيم، وأظهر دعوى الفضل، " وفوق كل ذي علمٍ عليم ".

فكف من غربه، ورجع عن شرقه وغربه.

واسترجع وسكت، وأطرق إلى الأرض ونكت.

لكنه قال في أثناء ذلك: ما أراني أضللت المسالك، وأنا ما قلت وإن فخرت وطلت لعنان الحق مالك.

وليس بملومٍ من نطق بالحق وصدع، وإن شق قلب المعاند وصدع، والحق أحق أن يتبع.

وما المرءُ إلاَّ حيث يجعل نفسَه ... وإنِّي لها فوق السِّماكيْن جاعلُ

قال الراوي: فاستشاط الفقر من الغيظ، وتلظت أنفاسه أحر من سموم القيظ.

وأنف من الذل والاستكانة، إذ أنزله الغنى إلى هذه المكانة.

وأنشد وقد أشعل نار الحمية تسعيرها:

ونفْسَك أكْرِمْ عن أمورٍ كثيرةٍ ... فمالك نفسٌ بعدها تسْتعيرُهَا

ثم انبرى للمقاومة مسترسلاً، بعد أن تضرع إلى الله تعالى متوسلاً، وقال متمثلاً:

إحْدى ليالِيكِ فهِيسي هِيسِي ... لا تنْعَمِي الليلةَ بالتَّعْرِيسِ

إلا أنه خاطب خطاب من قيد الحلم ألفاظه، وسدد العلم إيقاظه.

فقال: أيها الغني لقد صرحت وما كنيت، وعجلت وما تأنيت، فبرحت إذ تجنيت.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015