والصلاة والسلام على نبيه المبعوث بالإسلام، محمد الهادي للخلائق إلى أقوم الطرائق، وأكرم الخلائق، صلى الله عليه وسلم، وعلى آله وصحبه الأغنياء بالله الفقراء إليه.

وبعد: فقد وقفت على مقامة أنشأها بعض المتأخرين الأفاضل الأعاظم، ووشاها بدرر الفوائءءد هديةً لكل ناثرٍ وناظم.

ابتدعها على لسان الفقر والغنى كالمفاخر بينهما والمفاضل، وأودعها من الحجج التي يفلح بمثلها المناظر والمناضل.

فمد بها في العلوم باعه الأطول، وأمد الفهوم بمصداق كم ترك الأول.

قاصداً بذلك رياضة العقول، في رياض المقول.

وتبريض اللسان، بوقائع شآبيب البيان.

وتعريض الإحسان، للقانع بالأثر عن العيان.

فأيد فيها الفقر على الغنى، وشيد له في الفخر على البنا.

وجعله سابق الحلبة مجليا، وأتلاه بالغنى بعد لأيٍ مصليا.

حتى أقر له بالتقدم تسليما، وأخلص لوداده بعد التندم على عناده قلباً سليما.

هذا وإن كان الفقر عند أبناء الدنا، ملياً باكتساب العنا، خلياً عن أسباب الغنى، حفياً في اقتضاب المنى، كفياً في سد أبواب الهنا.

وبينه وبين النفوس، ما بين تغلب وبكرٍ غب غداة البسوس.

وقد أوقع فيها من المكروه والمساءة، ما لم يوقعه قيسٌ بابني بدرٍ يوم الهباءة.

وحطمها ولا تحطيم الإبل المجفلة، جيوش لقيطٍ يوم جبلة.

ووسمها بالعار الباقي على الزمان، كما وسم به لبيدٌ الربيع بن زياد في مجلس النعمان.

ونفورها عنه ولا نفور الغادة الفتية عن مقاربة الشيب، والشنشنة الأخزمية من مقارنة العيب.

وبعدها عنه بعد العزائم اليقينية عن شبهات الريب، والكثائف الجسمانية عن إدراك محجبات الغيب.

هذا وعقال العقول في تقييد صعاب النفوس محلول، وحسام الفكر المصقول عن قطع أعصاب الأهواء مغلول.

والناسُ أكْيَسُ من أن يمدحُوا رجلاً ... ما لم يَرَوْا عنده آثارَ إحْسانِ

فلا جرم كاد ينعقد الإجماع، كما لا يخفى على ذي نظر وسماع، على بغض الفقر وذمه، وقصده بالصد وأمه، وتواتر الدعاء بالهبل والثكل على أمه.

ومَن يجعْلِ المعروفَ من دون عِرْضِهِ ... يَفِرْهُ ومَن لم يَتَّقِ الشَّتْمَ يُشْتَمِ

فكان ما اختاره رحمه الله من هذا الصنيع، معدوداً في فن المغايرة من البديع.

وفيه تسلية لنفس البائس الفقير، وتقوية لقلب الآيس الحقي.

وإعانةٌ للمبتلى بهذا الداء العضال، وإبانةٌ للغرض إن نشط للنضال.

لكن حقيقة الحال أن هذا الفاضل لما كان من كبار الأتقياء الزاهدين، وخيار الصلحاء العابدين.

ومعلومٌ أن غالبهم قد اختار التقشف الموصوف، وشيد بناء التزهد المرصوف.

وهجر أنواع زخرف الدنيا وصنوفه، حتى قطع مسافتها وما بل بحرٌ صوفة.

كانوا جمال زمانِهم فتصدَّعُوا ... فكأنما لبس الزمانُ الصُّوفَا

فبنى رحمه الله تعالى على مقتضى طريقتهم، وفضل الفقر إذ كان مرتضى حقيقتهم.

وهو الحق الذي لا ريب فيه، والإنصاف الذي يرتضيه الأريب ويصطفيه.

ولا يعارضه في مراده، مفاد: " قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده ".

فإن من راد نفسه على حلول هذه الساحة، وخشي أن يغرق عند تلاطم الأمواج وإن كان متقناً للسباحة، لا يلزمه أن قال بالتحريم وعدم الإباحة.

وأحْزَمُ الناسِ مَن لو مات من ظَمَأٍ ... لم يقربِ الوِرْدَ حتى يعرِفَ الصَّدرَا

وأما أرباب العصمة، فهم البريئون من كل وصمة.

فإنهم شاهدوا حظهم الأشرف الأسمى، فلم يثبتوا لما دونه رسماً ولا إسما.

وقصروا نظرهم على الخالد الباقي، وأنفوا أن تطأ أقدامهم الأرض وهم في أعلى المراقي، ومن ورد البحر استقل السواقي.

ولما تأملت تلك المقامة، بوأ الله منشيها دار المقامة.

رأيت مبنى الأفضلية فيها على أن جعل الفقر أمهر في تحصيل العلوم والمعارف، وأكثر مقيلاً في ظلها الوارف.

وأقدر على إبراز الصواب، عند السؤال والجواب.

لا على إقامة الدليل والبرهان بالأفضلية، وجعل السابق في هذا الرهان صاحب الأولية.

على أن هذا الميدان مجرى العوالي ومجرى السوابق، وفيه تزدحم كتائب فرسان الحقائق، وتلتحم مناكب النظارة من الخلائق.

إذ الناس لعدم خلوهم من أحد الوصفين، ينقسمون إلى صنفين، وينتظمون في صفين.

وكلٌ يحتج لصاحبه بالصفات الواقعية المرضية، لا المجازية الفرضية.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015