فأغنى بها عن نديمٍ ومدامة، وأغدو من منادمتها في السلامة بلا ندامة.
هذا وشوقي إلى ذلك المنظر البهج، واجتلاء بدائع منطقة اللهج، شوق القارظي إلى سكون وسكنى، والقيسي إلى لبونٍ ولبنى.
واعتلاقي بوصفه الجميل، اعتلاق قفا نبك بالملك الضليل.
وكيف لي بخلسةٍ أشد عليها يد الضنين، وتنسيني هذا التأوه والأنين.
فإني من حين الاجتماع، والتلذذ بذلك الخطاب والاستماع، هجرت غيره من القول والإصغا، وجعلتهما في جانبٍ من الإزراء والإلغا.
فحالي فيه كما قلت، وعن نهج وده ما حلت:
يا سيِّداً من حين فارقتُه ... ما راقَنِي مَرْأىً ولا مَسْمَعُ
لا تحْرِمَنِّي نَظْرةً أمْكنَتْ ... فليس لي في غيرِها مَطْمَعُ
فكتب إلي مجيباً:
مولايَ قد قلَّدْتني مِنَّةً ... يسْتغرِقُ الشكرَ حَياها العَمِيمْ
أهْديْتَ لي نثْراً من الدُّرِّ بل ... من الدَّرارِي الزُّهْر طَيَّ الرَّمِيمْ
بل نَفْحةً قُدْسِيَّةً عَطَّرتْ ... بِطيبِ أخلاقِك نَشْرَ النَّسِيمْ
تمنْع أن يُعْكَس تَشْبِيه مَن ... يُشبِّه العِطْر بخُلْقٍ كريمْ
لا بل قد اهْدَيْتَ لي في العُلاَ ... هِدايةً للمَنْهَجِ المُسْتقيِمْ
تفْتح عَيْنَ القلبِ حتى يَرَى ... تبلُّجَ الدهرِ بلَيْلٍ بَهِيمْ
واللهِ لا أمْلِكُ شُكْراً لها ... إلاَّ عُبودِيَّةَ قلبٍ سَلِيمْ
يا مولانا الذي شرف مولاه بما أتحفه، وشفاه بطب الفضل من داء الجهل وقد أنحفه.
ومدحه حتى فضله وقدمه، فشجعه حتى ثبت في معارك الأدب قدمه، وفهمه آداب السلوك وعلمه، حتى حق له أن يشهر لدى ملوك الكلام قلمه، وينشر في مواكبهم علمه.
أقدم أولاً عذري في مقابلة الدر بالمدر، وحمل التمر بل الحشف إلى هجر، وجلب الدر بل الصدف إلى البحرين، وإهداء تبركات المساجد إلى أهل الحرمين.
ثم ما ذكره مولانا عظم الله مقامه، من طلب ما أنشأته على لسان الغنى والفقر شبه مقامة.
فإن المخلص بنى في ذلك وهدم، حتى كاد يحلم الأدم، ويعيد ما أخرجه للوجود إلى العدم، خوفاً من الإتيان بما يوجب عند أهل المعرفة إلى الخجل والندم.
وإلى وقت وصول الرقيم، والفكر في تيه الحيرة مقيم.
أيبرزه في قالب التمام، أم يستر الأدب ستر الشمس المنكسفة بالغمام؟ وما قرأته منه على بعض المخاديم الكرام، فقد نزلته منزلة أضغاث أحلام، عند الانتباه من المنام.
لكن بعد أن أسعفه الطالع الميمون بإقبالكم، وأنار هلاله المشبه بالعرجون من شمس كمالكم.
فقد جزم المخلص برفعه بعد خفضه، وإبرامه غب نقضه، وضم بعضه إلى بعضه.
حتى يقوم شخصاً كاملاً، ويليق بأن يكون لديكم على قدم الخدمة ماثلاً.
وبسَعْدِكم تلك المَخائِلُ تَرْتقِي ... بتكامُلٍ حتى تعود شمائِلاَ
بشرط أن أصل أولاً إلى خدمتكم الواجبة وجوب الفرض، وأنهيه إلى نظركم الكريم بطريق العرض.
ونبلغ مع التحلي بتهذيبكم، أمل التملي بكم.
فوحق ورد ودكم الصافي من الأكدار، إن شوقي مع قرب الدار:
كشَوْقِ ظامٍ بالحِبْالِ مُوثَقِ ... لماءِ مُزْنٍ باردٍ مُصَفِّقِ
وأقول:
بل هو شَوْقٌ باللِّقاء يَرْتَقِي ... يزْدادُ أن لا نَلْتقِي أو نلْتَقِي
ونسأل الله أن ينيلنا تواتر التردد لديكم، كما أنالنا تظافر التودد إليكم.
وأن يمتع جيد الدهر بعقد مجدكم الثمين، ويحرس حمى وجودكم الذي تهوى إليه الأفئدة كما تهوى إلى الحرم الأمين.
وبعث إلي بالمحاكمة، وهاهي مثبتة منقولة من خطه: الحمد لله الحكيم القادر على الإطلاق، الباسط المقدر للأرزاق.
الذي جعل الفقر والغنى آيتين من أبدع آياته، وغايتين في الحكمة من أبدع غاياته.
يتفكر فيهما ذو الفطنة والاعتبار فيتلو: " ربنا ما خلقت هذا باطلاً "، ويجري إليهما العبد على جياد الأقدار حالياً بزينة العقل أو عاطلاً.
فيسعد من يرشد للتسليم إيماناً وتصديقاً، ويبعد من ينشد وهو المليم:
هذا الذي تركَ الأوْهَام حائرةً ... وصَيَّر العالِمَ النِّحْريرَ زِنْدِيقَا