جرى دمعُها لمَّا تألَّق نُورُهُ ... كذا البَرْقُ إذ يَسْرِي دليلُ المَواطِرِ
هو الروضُ فيه نَرْجِسُ اللَّحْظِ ناثِرٌ ... على وَرْدِ خَدٍ دُرَّ طَلٍ مُباكِرِ
وقوله:
فتاةٌ لاطفَتْنِي بابْتسامِ ... ونال كلامَها قلبي الكَسِيرُ
بَدا من ثَغْرِها دُرٌّ نَظِيمٌ ... ومن ألْفاظِها دُرٌّ نَثِيرُ
فراعيْتُ النَّظيرَ دَمْعِي ... ولكن ذاك ليس له نَظِيرُ
وقوله:
بنُورِ مُحَيَّاك الجميلِ إذا انْجَلَى ... ونَوْرِ لأَلآءِ ثَغْرِك البارِدِ الظَّلْمِ
أعُثْمانُ ذَا النُّورَيْنِ رِفْقاً بمَن غَدَا ... شهيدَ الْهوَى يشْكُو إليك من الظُّلْمِ
وقوله في التنباك:
أُحِبُّ الشُّرْبَ للتُّنْباكِ طَبْعاً ... وأُذْكِي نارَه أبَداً عليْهِ
فلي قلبٌ حَرِيقُ جَوىً ووَجْدٍ ... وشِبْهُ الشَّيْءِ مُنْجَذِبٌ إلَيْهِ
وكانت المقادير جمعت بيننا في الطائف، بين روضٍ وغدير، فتمتعت بمؤانسته، واغتنمت أوقات مجالسته، وكتبت إليه في أثناء ذلك:
يا رَوْنَق المُنْتسَبِ الشَّرِيفِ ... أفْدِيكَ بالتَّالِدِ والطَّرِيفِ
شُكْراً لأيَّامي هذه التي ... فُزْتُ بها في ظِلِّكَ الوَرِيفِ
أسمعُ من لفظِك ما يبْهَر مَن ... ينْطِق بالأسْماءِ والحروفِ
من كلِّ زَهْراءَ لآَلِي لَفْظِها ... تُغْنِي عن العُقودِ والشُّنُوفِ
وأجْتلِي من خَطِّك الرَّوْضَ الذي ... أبْدَعْتَ فيه صَنْعةَ التَّفْوِيفِ
طابتْ مَجانِيهِ فأثْمارُ المُنَى ... في سُوحِه دَانيِةُ القُطوفِ
دُمْتَ تُحلِّي الدهرَ فخراً وأنا ... وَصَّافُ حُسْنِ طَبْعِك المَوصُوفِ
فراجعني بقوله:
يا شمْسَ أُفْقِ الأدبِ المَوْصوفِ ... ويا فَرِيدَ عِقْدِه المَرْصُوفِ
ويا جمالَ النَّسَبِ السامِي إلى ... عبدِ مَنافٍ بالسَّنا المُنِيفِ
يا مَن حَبانِي مِن صَفاءِ وِرْدِهِ ... رَوْنَقَ ذاك الجَوْهرِ اللَّطِيفِ
ومَن سَقانِي من نميرِ فضلهِ ... سُلافَ كَرْمِ رَوْضِه المَسْلُوفِ
ومَن أراني مِن خِصالِ ذاتهِ ... مَحاسِناً زادَتْ على الألوفِ
يا مُهْدياً إليَّ من أشْعارِه ... تاجَ عُلاً تَمَّ به تَشْرِيفِي
إن زماناً بك قد جادَ لنا ... جَدَّد جُودَ حاتمِ المعروفِ
أحْسَن إحْساناً نسينا عنده ... ما مَرَّ من سُلُوكِه المأْلوفِ
قد كان ما مضَى من العمرِ سُدىً ... لا يُشْتَرى بالثمنِ الطَّفيفِ
حتَّى حَبانا بك سَعْدٌ طالِعٌ ... يزْهُو بنَجْمِ مَجدِك الشَّرِيفِ
فعاد باقِي العُمْرِ عَيْشَ خالدٍ ... في جَنَّةٍ دانِيَةِ القُطوفِ
فاسْلَمْ ودُمْ دامتْ مَعالِيك تُرَى ... أوْصافُها للسَّمْعِ كالشُّنوفِ
وبلغني من بعض السادة، أنه أنشأ محاكمة بين الغنى والفقر، فكتبت إليه أطلبها منه: بلغني خبر المحاكمة، التي أنشأها السيد مقامة، وأفاد بها أن لا أحد يساوي مقامه.
فعرفت أنه أتى بالعجب العجاب، واستأثر بما هنالك من الإغراب والإعجاب.
جرياً على ما يعهد من طبعه المهذب، وفكره الذي ينشىء الوشي المذهب.
فكم لفظة منه بحر الفكر، أمثال هذا الجوهر البكر.
فأطلع الكلام دراً، وبيان البنان سحراً.
وصير بطون المهارق بوارق، وما بين مدب الأقلام خوارق.
من قوافٍ تنير حنادس الأفهام، وتتلاعب بالأفكار تلاعب السحر بالأوهام.
وفقرٍ أبهى من الغنى بعد الفقر، وأشهى من الوطن غب مقاساة وحشة القفر.
فلله تلك البديهة النبيهة، والفكرة النزيهة.
حيث أتت بمستبينة الإعجاز، مميزة للحق على الحقيقة والمجاز.
فأنستْ بمحاسنها آثار المتقدم، وصيرت المجترى على مثلها كالمتندم.
فلعل السيد يمتع بها طرفي وسمعي، ويجمع بسببها شمل فكري وطبعي.