فسِمْ سِمَةَ الصبرِ الجميلِ لعلَّها ... تُدِيلُ فإنْ لم تُغْنِ فالصبرُ أخْلَقُ
فلو سلِمتْ من حادثِ الدهرِ دِمْنَةٌ ... تمَطَّى على هامِ الدهورِ الخَوَرْنَقُ
ومن محاسنه، قوله في زيات بديع الجمال، وقد أجاد في التورية:
أفْدِيه زَيَّاتاً رَنَا وانْثنَى ... كالبدرِ كالشَّادِنِ كالسَّمْهَرِي
أحسن ما تُبْصِرُ بدرَ الدجَى ... يلعبُ بالمِيزانِ والمُشْترِي
وقوله:
كيف التخلُّصُ من حُبِّ المِلاحِ وقد ... تبادرَتْ لِقتالِي أعْيُنٌ سَحَرَهْ
تغْزُو لَواحِظُها في العاشقِين كما ... تغْزُوا جيوشُ بني عثمانَ في الكَفَرَهْ
أحمد بن محمد علي الجوهري جوهرٌ استخرجته أفكار الليالي من بحورها، والتقطته أبكار المعالي لنحورها.
له ذاتٌ تخلصت من الكبر، وخلصت من الخيلاء خلوص التبر.
وأما أشعاره فكلها قطعٌ من خالص الجمان، قلد بها صدور الأيام وشنف آذان الزمان.
فإذا حدثت عن آثار قلمه، فارو الصحاح عن جوهري كلمه.
وقد جئتك من كلماته بأنفس نفيس، فلا تذكر الدر بعدها إن كنت ممن يقيس.
فمن ذلك قوله:
ما شِمْتُ بَرْقاً سَرَى في جُنْحِ مُعْتكِرِ ... إلاَّ تذكَّرتُ بَرْقَ المَبْسَمِ العَطِرِ
ولا صَبَوْتُ إلى خِلٍ أُسامِرُه ... إلاّ بكَيتُ زمانَ اللهوِ والسَّمَرِ
شَلَّتْ يدٌ للنَّوَى ما كان ضائرَها ... لو غادرتْنا نُقضِّي العيْشَ بالوَطَرِ
في خِلْسةٍ من ليالي الوصلِ مُسْرِعةٍ ... كأنما هي بيْن الوَهْنِ والسَّحَرِ
لا نَرْقُبُ النجمَ من فَقْد النَّدِيمِ ولا ... نسْتعجلُ الخطْوَ من خوفٍ ومن حَذَرِ
وأهْيَفَ القَدِّ ساقِينا برَاحتِه ... كأنه صنمٌ في هيكلِ البشَرِ
مُنَعَّمين وشَمْلُ الأُنْسِ منتظِمٌ ... يربُو على نَظْمِ عِقْدٍ فاخرِ الدُّرَرِ
فما انْتهيْنا لأمرٍ قد ألَمَّ بنا ... إلاَّ وبُدِّل ذاك الصَّفْوُ بالكَدَرِ
لا دَرَّ دَرُّ زمانٍ راح مُخْتلِساً ... من بيْننا قَمَراً ناهِيك من قَمَرِ
غزالُ إنْسٍ تحلّى في حُلَى بشَرٍ ... وبدرُ حُسْنٍ تجلّى في دُجَى شَعَرِ
وغُصْنُ بانٍ تثَنَّى في نَقَا كَفَلٍ ... لا غصنُ بَانٍ تثنَّى في نَقَا مَدَرِ
كأنَّ لَيْلِي نهارٌ بعد فُرْقتِه ... مِمَّا أُقاسِي به من شدَّةِ السَّهَرِ
يا ليت شِعْرِيَ هل حالتْ مَحاسنُه ... وهل تغيَّر ما باللَّحْظِ من حَوَرِ
فإن تكنْ في جِنانِ الخُلْدِ مُبْتهِجاً ... فاذْكُرْ مُعَنَّى الأمانِي ضائعَ النَّظَرِ
وإن تأنَّسْتَ بالحُورِ الحسانِ فلا ... تَنْسَ الليالِي التي سَرَّتْ مع القِصَرِ
وقوله:
كيف أسْلُو مَن مُهْجَتِي في يديْهِ ... وفؤادي وإن رحَلتُ لدَيْهِ
إن طلبتُ الشَّفاءَ من شفتيْهِ ... جادَ لي بالسّقامِ من جَفْنيْهِ
إنَّ حِلْفَ السُّهادِ عينٌ رأتْهُ ... وجنَتْ وَرْدَ جَنَّتَيْ خَدَّيْهِ
كلما رُمْتُ سَلْوةً قال قلبي ... لا تلُمْني على العكوفِ عليْهِ
لستُ وحدِي مُتيَّماً في هَواهُ ... كلُّ أهلِ الغرامِ تصْبُوا إليْهِ
وله مقاليع، سماها لآلىء الجوهري، منها قوله:
كيف يرجو العِرْفانَ باللهِ مَن قد ... قيَّدتْه الذنوبُ طولَ حياتِهْ
لا لَعَمْرِي أم كيف يُشْرِقُ قلبٌ ... صُوَرُ الكائناتِ في مِرْآتِهْ
وقوله:
إذا مضتِ الأوقاتُ من غيرِ طاعةٍ ... ولم تكُ مَحْزوناً فذا أعظمُ الخَطْبِ
علامةُ مَوْتِ القلب أن لا ترَى به ... حَراكاً إلى تَقْوَى ومَيْلاً عن الذنبِ
وقوله:
إن حُزْتَ عِلْماً فاتَّخِذْ حِرْفةً ... تصُون ماءَ الوجهِ لا يُبْذَلُ