له تدبير محتنكٍ مجرب، ورأى ممارس مشرق ومغرب.

ونظمه ونثره باللسانين، هذا يقصر عنه من السحاب دره، وذا يصغر عنه من السخاب دره.

فذا أصفى قطراً وديمة، وذا أوفى قدراً وقيمة.

وكان في آخر أمره تنبه حظه من نومته، وسيم من الإقبال التام بسومته.

فولي قضاء الشام، ونال رتبةً يتباهى بها العز والاحتشام.

وقد رأيته يوم دخوله، وزحمة الأعين تحول بين التملي ووجهه، فرأيت شيخاً إذا سار البدر في موكب نجومه، قيل قد غنينا عنه بتلهبه.

وقد أخلق العمر عمائم ثلاثاً في راسه، وأشعل للرحيل بهذه النعشة ذبالة نبراسه.

ولم يبق من كأس عمره إلا جرعة، وبريد المنية سائرٌ إليه في عجلة وسرعة.

فما حط أثقاله بهذا الفنا، حتى نزل دار البقا وترك دار الفنا.

فالله ينور له الحفيرة والتربة، وهو المسؤول أن يؤنس له الوحشة والغربة.

وهذا جانبٌ من نثره الفائق، ونظمه الرائق.

أتيت منه بالقليل من الكثير، فإن محاسنه تزيد على نجوم الفلك الأثير.

فمن ذلك ما كتبه إلى مفتي الدولة:

دروعٌ لِشاكِي الطعنِ هذي الرسائلُ ... يرُدُّ بها عن نفسه ويشاغِلُ

هي الزَّرََدُ الضَّافِي عليه ولفظُها ... عليكَ ثناءٌ سابغٌ وفضائلُ

أتاك يكادُ الرأسُ يجحَد عُنْقَه ... وتنْقَدُّ تحت الذُّعْر منه المَفاصلُ

كيف لا، وأيد الله مولانا، وهو مظهر الجلال والقهر، ومصدر الحماسة والسيادة في أبناء الدهر.

ذو الهمة التي همت بالدهر إذ تصرف في الاحرار بصروفه، والعزمة التي عزمت على تسكين دور دوائر حتوفه.

الذي تصهر باستبعاده الأحرار من عزمهم غصناً وريقا، وتسنم من سبح الجلالة والجبروت مكاناً وثيقا.

متى استنجد تنمر تنمر الليث، أو استغيث تشمر تشمر البطل عند الغيث.

يكاد سنا برق سطوته يذهب بالأبصار، وتكاد صواعق دولته تخرب المدائن والأمصار.

وإن شيم برق حلمه في خلال جون معارضات عوارضه، فالمستغر بوميضه كمن اغتر في الأحقاف بعارضه.

كم أوجف أقدام قربه بالجبان، إلى مساقط الحرب العوان.

وكم روى سويد بن البنان، من دماء الغطارفة الشجعان.

يتكسَّب القصَبُ الضعيفُ بخطِّه ... شَرفاً على صُمِّ الرماحِ ومَفْخَرَا

لقد أطال إلى سمك السماكين باعا، ومد إلى جر مجرة الفرقدين ذراعا.

فتغنى بمديحه غير الغريد، وملأت مهابته قلب كل قريب وبعيد.

بعث الرعبَ في قلوبِ الأعادِي ... فكأنَّ القتالَ قبلَ التَّلاقِي

وتكاد الظُّبَا إذا جاشَ غَيْظاً ... تَنْتضِي نفسَها إلى الأعناقِ

كرمٌ خَشَّنَ الجوانبَ منه ... فهْو كالماءِ في الشِّفارِ الرِّقَاقِ

ومَعالٍ إذا ادَّعاها سِواهُ ... لزِمتْه جِنايةُ السُّرَّاقِ

هو لعمري المقدم الذي لا يجارى في مضمار، ولا يساوى عذار جواد سؤدده بعذار.

لقد تقلد بفخره حساماً لا تنبو مضاربه، وتخوذ من عرضه بيضةً يعجز عن قرعها مضاربه.

فمن رام وطء حرمه بنقصٍ ملته البقيا، ومن اصطلى بناره أتيح له منها شوبٌ لا يموت فيها ولا يحيى.

أعزُّ مُغالبٍ كفّاً وسيْفاً ... ومقدرةً ومَحْمِيةً وآلاَ

وأشرفُ فاخرٍ نفساً وقوماً ... وأكرمُ مُنْتمٍ عَمّاً وخالاَ

كلا والله، لست صادقاً في قالي، ولا مصيباً تلك الرمية بنبال مقالي.

لأني لا أرتضي له من جميل المدح مدحَا، ولا أستطيع لمتن حسن ثنائه شرحَا.

إذ المدح وسيلةٌ لأن يعتقد في الناقص الكمال، والثناء ذريعةٌ إلى تخيل الجميل في غير ذي الجمال.

فأكون كالأعشى إذا مدح محلقا فغدا بعد خموله إلى شأو العلى محلقا.

وهو فقد ملك السيادة مقاداً ذليلا، وأضح له صعب الفخار ذلولا.

وجل عن مذهب المديح فقد كاد يكون المديح فيه هجاء، فأكبر بشأنه، وأعظم بمكانه.

هو الذي بذ فلا يدرك، وشذ في عصره فلا يشرك.

وأي مقال ينبي عن مغنى فضله، وأي إرقالٍ ينتهي إلى مداه وخصله.

لو أرخى عنان جواد الثنا، في ميدان المدح والثنا، لوجب من غلو الوصف المندوح، تكفير المادح والممدوح.

لكن قد زحم جماح غلوه، واستنزه جلمود علوه.

واستقصر مدى جريته، دون التمادي في مريته.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015